سليمان الجاسر الحربش
أستميح القارئ عذراً في العودة إلى نفس الموضوع الذي نشرته هذه الجريدة في عددها الأسبوعي 29 - 30 يناير 2021 وهو صندوق أوبك للتنمية الدولية OFID وذكرى مولده الخامس والأربعين. وما سببه هذا المقال من تداعيات جميلة.
لقد شفا نفسي ما وردني من تعليقات ومكالمات ورسائل هاتفية من عشرات الأصدقاء في المملكة وخارجها، كلها تفيض تقديراً وثناء على الفترة التي قضيتها مديراً عاماً للصندوق والتي على حد قول بعضهم أخرجت تلك المؤسسة خلال تلك الفترة من الظلمات إلى النور، غير أن بعض تلك الرسائل وأشدها دفئاً وحماسة هو ما وردني من زملاء المهنة في فيينا.
لقد أشفقت على هؤلاء الزملاء وقد كتبت رسائلهم على استحياء، وللصديق الذي طلب مني أن أحافظ على أسلوبي المرح في الكتابة -على حد قوله- أقول إن تلك الرسائل وما تضمنته من مشاعر طيبة ذكرتني بالحوار الذي دار بين الحسين بن علي رضي الله عنه والشاعر الفرزدق على مشارف الكوفة، سأل الحسين الفرزدق: كيف تركت أهل الكوفة يا أبا فراس ؟ فرد الفرزدق على الفور: قلوبهم معك وسيوفهم مع الخليفة (الأموي طبعاً).
لعل القاسم المشترك بين كل ما وردني من رسائل يدور حول الرغبة في المزيد من الإفصاح عما قمت به من تغيير في الصندوق شمل الشكل والموضوع والى أي مدى كنت أنفذ سياسة حكومتي الرشيدة إما مباشرة أو بمباركة من ممثلي المملكة في المجلس الوزاري، ومجلس المحافظين.
لقد قبلت المنصب وتخليت عن الشركات الثلاث التي كنت أرأس مجالس إدارتها (ولم أحتفظ بها كما يفعل غيري) يدفعني هدف واحد هو وضع صندوق أوبك في دائرة الضوء إنفاذاً لبرقية الملك فهد -رحمه الله- التي تنص كما سبق القول على الحاجة إلى نشاط إعلامي يشرح للعالم ما هو صندوق أوبك وما هي رسالته وكيف أن المملكة (أكبر الملاك) هي قطب الرحى في هذا الصندوق.
وأفصل ما أجملت بدءاً بملاحظة لا بد منها:
* سافرت إلى أبو ظبي ( 11 يونيه 2003) بتوجيه من معالي وزير المالية لحضور الدورة العادية للمجلس الوزاري المؤلف من وزراء المالية وهي الدورة التي شهدت تعييني في منصب المدير العام ويعلم الله أنني وقعت العقد قبل أن أتم قراءته لسببين:
الأول أنني كنت متاكداً أن ما سوف أحصل عليه من مرتب هو أعلى من معاش التقاعد الذي أتقاضاه وهو مرتب آخر مربوط المرتبة الخامسة عشر بعد خدمة جاوزت أربعين سنة في وزارة البترول. أما السبب الثاني فهو أنني علمت من الموظف الذي قدم لي العقد أنه أعد بإشراف معالي الدكتور صالح العمير رئيس مجلس المحافظين في ذلك الوقت وهو لما لديه من خبرة وحكمة وحرص على المصلحة العامة أدرى مني في هذا الشأن، بل أنني طيلة خمسة عشر عاماً لم أحصل إلا على علاوة واحدة في عام 2007 ! بمبادرة من رئيس مجلس المحافظين الأخ جمال لوتاه (من الإمارات) وصادف من حسن الحظ أن رئيس المجلس الوزاري في تلك السنة هو الدكتور إبراهيم العساف ممثل المملكة في المجلس. والحديث عن هذه المسألة بالذات ذو أشجان وشجون.
* عندما أكملنا أول مشروع لأول حملة إعلامية حسب التعليمات السامية قدمناها لمجلس المحافظين في شهر ديسمبر 2004 .
وأذكر أنني طلبت من إحدى العاملات في مكتبي أن تسلم رسالة مني إلى الدكتور صالح العمير بعد أن تخلى عن رئاسة المجلس وعاد إلى موقع الوفد السعودي والرسالة التي أرفقت معها نسخة من برقية الملك تقول:
«يابو ساري ترى هالبند مهوب من عندي هذا من طويل العمر»
وتقول السكرتيرة إنه حين استلمها عبس ثم ابتسم، وبهذه اللغة الجسدية انطلقت أول حملة إعلامية تلتها عدة حملات أخذت عدة أوجه منها الظهور التلفزيوني الذي شاركت فيه في عدة مناسبات شملت قنوات مثل العربية والـ MBC , ولندن القسم العربي.
* الجائزة والمنح: تأكد لنا أن الحملات الإذاعية المرئية والمسموعة لا تكفي للتعريف بالصندوق ما لم ترتبط بعمل مادي فقمنا باستحداث الجائزة السنوية التي أشرت إليها في المقال السابق وقد وردت في مكاتبات الديوان، وكذلك برنامج المنح وآخر تنقيح وتحديث لهذا البرنامج تم في عام 2011 بإشراف وتدخل مباشر من ممثل المملكة في مجلس المحافظين الدكتور حمد البازعي وهو الذي وضع المعادلة التي سرنا عليها منذ ذلك الحين وهي 13 % من الدخل الصافي السنوي على أساس جاري بسقف لا يتعدى 25 مليون دولار موزعة على ستة برامج لم يقل أحد إن هذا المبلغ يهدد الاستدامة المالية للصندوق. ومن أمثلة ما قدمناه من منح على سبيل المثال تلك التي خصصناها لفلسطين مباشرة أو عبر وكالة غوث اللاجئين وتلك التي وقعتها مع الرئيس جيمي كارتر لمكافحة العمى النهري والدودة الغينية وهي أوبئة تنتشر في إفريقيا تسبب العمى أو الوفاة. ومعهد الكفيفات في الأردن بتوصية من معالي أخي عبدالله النعيم وبناء مأوى للطالبات في جامعة إفريقيا بالسودان بعد أن كن يسكنن في حاويات من الحديد بدون تكييف.
الخلاصة أن الحملة الإعلامية التي راودت المسؤولين في المملكة نفذناها بحذافيرها وأصبحت حديث الوسط الدبلوماسي في فيينا حتى أن أحد السفراء العرب يقول من قبيل التندر ما شاء الله يابو زهير حملتكم الإعلامية واسم الصندوق وصل حتى إلى الدار الآخرة إشارة إلى اللوحة التي في مدخل مقبرة المسلمين في فيينا وقد شاركنا في تمويل وتجهيز ما تحتاجه من مرافق وكنت الوحيد الذي شارك في تدشينها مع عمدة فيينا، (طبعاً المقبرة لا دخل لها بالحملات الإعلامية).
* الاسم المختصر والشعار: الاسم هو الأحرف الأولى من الاسم الرسمي باللغة الإنجليزية وقد تقبل هذا الاسم برحابة صدر كل من الأجانب وجيل الشباب وكل من يعلم أن كل منظمة دولية لها اسم مختصر، لم يقل أحد إنه بدعة أو Anomaly إلا خبراء البنك الدولي الذين يسوءهم أن يتمتع الصندوق بشخصية مستقلة لكن المؤلم أن يأتي هذا الانتقاد من ذوي القربى (وظلمهم أشد مضاضة). لقد ورد هذا الاسم المختصر بمعناه في اللغة العربية المطابق لرسالة الصندوق ثلاث مرات في بيان ملوك ورؤساء أوبك الصادر في الرياض والذي أشرف على إعداد البيان هو الأمير عبدالعزيز بن سلمان ممثلاً لوزارة البترول في المملكة العربية السعودية بل أن الاسم المختصر OFID ورد ثلاثين مرة في النبذة التي قدمها الأخ الدكتورعبدالحميد الخليفه كجزء من أوراق اعتماده للترشيح لمنصب المدير العام.
إن من أصعب الأمور أن تحاول إقناع من شعارهم «كل بدعة ضلاله» بأي فكرة جديدة وأنا هنا أتحدث بشكل عام، أن تاريخ المملكة العربية السعودية منذ أن أعاد تأسيسها رائد هذه الأمة الملك عبدالعزيز زاخر بالأعمال الجليلة الجديدة التي وضعتها في مصاف الأمم السائرة في ركب التحديث وآخرها المشروع الرائد «نيوم» أو المستقبل الجديد ! هل تسمون هذا بدعة!!
* الشعار البيضاوي: هذا الشعار لم يأت من فراغ، إنه مصمم بطريقة تجمع بين الرسالة النبيلة التي يضطلع بها الصندوق وبين علاقتنا بالعالم الذي نحن منه، لقد اجتمعت بالشركة المصممة ست مرات قبل أن يخرج هذا الشعار إلى النور.
إن ما يحز في نفسي وأنا هنا أخاطب الزملاء الكرام في الرياض وفيينا ليس مجرد استبدال الشعار وإنما استبداله بما هو أدنى منه {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}. إن شعارهم الجديد مكرر ومطروق إنه تحوير لشعار تستخدمه عدة جهات في المملكة وغيرها فهو على سبيل المثال شعار الشركة السعودية للكهرباء وهو شعار نزاهة وهو شعار عيادة طب الأسنان «سيجال» في حي العليا بمدينة الرياض بل أنه شعار مقاول سوري يجري بعض أعمال الصيانة في منزلي، وكم أزعجني إسقاط الشعار الفرعي المصاحب للشعار الأصلي وهو «متحدون ضد الفقر» بدون أي سبب واضح، لقد سبقنا بهذا الشعار الأمم المتحدة وهل هناك دولة تكافح الفقر أكثر من حكومتنا الرشيدة.
* بهذا الشعار تصدينا بما لدينا من موارد لمكافحة فقر الطاقة ونادينا بمطلب الطاقة للفقراء الصادر من المملكة العربية السعودية (ولا غرو) لقد كان لنا في أوفيد شرف المشاركة في إعداد البند الخاص بهذا المطلب بالتنسيق مع الزملاء بالرياض المعنيين بإعداد الأوراق الخاصة بقمة أوبك الثالثة التي استضافتها الرياض في نوفمبر 2007 ، لقد حولنا هذا البند إلى خطة عمل ونادينا به في شتى المحافل على أنه الهدف التاسع المفقود من أهداف الألفية الثمانية التي تصدت لكل أوجه الفقر ما عدا فقر الطاقة الذي يتمثل بوجود ما يقرب من مليار نسمة في العالم من دون إمدادات طاقة كهربائية منتظمة، ولا أبالغ إذا قلت إن الفضل يعود للمملكة في تخصيص هدف خاص للقضاء على فقر الطاقة ضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر الصادرة من الأمم المتحدة في سبتمبر 2015 أي بعد ثمان سنوات من صدوره من الرياض.
هذا الهدف يلامس أوتار قلوب كثير من الناس وأنا منهم عندما أتذكر والدتي رحمها الله وهي تسهر معي على ضوء السراج أو الفانوس إلى أن أنتهي من حل واجباتي المدرسية.
لقد حملنا الراية في أوفيد وطرقنا البيوت في أنحاء مختلفة من العالم وأصبح النور مرتبطاً باسمنا وارتفع نصيب مشاريع الطاقة الكهربائية في التزامات الصندوق من 19 % في عام 2007 إلى 30 % في عام 2018 .
كانت الطاقة أحد القطاعات التي شهدت نمواً ملموساً في نشاط أوفيد منذ 2003 وقد لخصتها في خطبة الوداع التي ألقيتها أمام المجلس الوزاري في صيف 2018 في دورته التاسعة والثلاثين وهي تحتاج إلى مناسبة مستقلة.
* أرجو من معالي الأستاذ محمد الجدعان وهو يقرأ هذه المقالة أن يتذكر ما دار بيننا من مراسلات هاتفية منذ أن قرر ترشيح الأخ عبدالحميد الخليفه ومنها:
أولاً: في 19 يناير 2018 بعثت لمعاليه:
معالي الوزير: وصل الترشيح أبارك مقدماً وكما قلت وأعدت فأنا مستعد لبذل كل ما أستطيعه للحفاظ على مكانة ومكان المملكة كيف لا وأنا جزء من الحل وفق الله الجميع.
ثانياً: في 21 فبراير بعثت لمعاليه:
معالي الوزير: اجتمعت بالدكتور عبدالحميد بين السادسة والتاسعة من مساء اليوم بتوقيت فيينا، تحدثنا في كل صغيرة وكبيرة في ماضي وحاضر ومستقبل أوفيد كان لقاءً ممتعاً استمد متعته من رغبة صادقة مخلصة مشتركة في الحفاظ على دور المملكة في إدارة شؤون الصندوق، للإحاطة.
ثالثاً: الرسالة الثالثة بتاريخ 16 فبراير من معاليه لي ولذلك لن أنقلها كما فعلت مع سابقتيها لكنها تدور حول الجهود المشتركة التي بذلناها وشاركت فيها لتمكين المملكة من الاحتفاظ بمنصب المدير العام، وقد فعلت ذلك وأنا في منتهى السعادة ولسان حالي يقول إذا غاب منا سيد قام سيد.
أبعد هذا كله يكون جزائي طمس كل ما أحدثته من تغيير وضع الصندوق في ذروة المنظمات التنموية.
إنني سوف أظل مدافعاً عن هذه المؤسسة الجميلة لأن هذا جزء لا يتجزأ من دفاعي عن سياسة بلادي ودورها في مكافحة الفقر والجهل والمرض أينما كان وأرجو أن يعلم الزملاء الأعزاء في الرياض وفيينا أنني في كل مناسبة أدحض الشائعات التي تدعي أن الصندوق بدأ يتخلى عن تفويضه الأساسي وصار يجنح نحو مساعدة الفئات العليا من الدول ذات الدخل المتوسط على حساب الدول الفقيرة منخفضة الدخل، وسلاحي في الرد على من يشكك في التخلي عن رسالة أوفيد كما وردت في المادة الثانية والثالثة من نظامه الأساسي هو ما ورد في النبذة التي قدمها أخي الدكتور عبدالحميد لدعم ترشيحه للمنصب وقد أعدها بإشراف الزملاء ممثلي المملكة في مجلس المحافظين وكذلك ما أجده من تغريدات منسوبة للصندوق.
بقيت نقطة استقطبت انتباه بعض الأصدقاء الدبلوماسيين الذين قضوا فترات طويلة في العمل الدبلوماسي خارج المملكة وهي: إلى أي مدى تعد صناديق التنمية أداة من أدوات الدبلوماسية السعودية ؟ ما هو الوضع في الدول التي تشكل المساعدات الخارجية ركناً من أركان علاقاتها الخارجية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفي منطقة الخليج دولتي الإمارات والكويت؟ وذلك بصرف النظر عن وجود تلك الصناديق تحت أي مظلة؟
سؤال جدير بالتأمل والتحليل والتنقيب.
وللحديث بقايا...