لا أكتب هذا المقال وفاءً وأداءً لواجب الصداقة، فأداء الواجب ينقضي بغير ذلك، ولكنه لرغبة ملحة في الكتابة عن شخصية لا أستطيع ألا أتحدث عنها.
كان محمد -رحمة الله عليه- شخصية فذة ملهمة ومصباحاً معرفياً يضيء المكان الذي يمر فيه، الكل عرفه عن طريق تطبيق تويتر وسناب شات، ولا أظن أن أحداً استطاع مقاومة الإعجاب بشخصيته والانتباه لنبوغه على حداثة سنه والانبهار بذكائه، وسعة اطلاعه في مجال الاقتصاد والثقافة العامة، فالنهار لا يحتاج إلى دليل، ولكني أكتب عن جميل ما شاهدت فيه لمن لا يعرفه على أرض الواقع.
تعرَّفت على محمد بعد رجوعه من دراسته في أمريكا وقد قضى فيها سنوات طويلة، شاركنا تفاصيلها عبر تطبيق سناب شات، ولم يبخل علينا بمشاركة كل فائدة علمية واقتباس وكتاب مرَّ عليه واستفاد منه، ولا يبخل بالرد على أي تساؤل ترسله له بالخاص، وصدره يتسع للحوار والنقاش، فاحترمته وأكبرت ذلك الخلق فيه، وكان يبهرني بغزارته المعرفية وحجم المعلومات المهول الذي يمتلكه في عمره الصغير، وأتساءل كيف أمكنه فعل ذلك؟ ولكن بعد احتكاكي به عرفت السبب وزاد استعجابي واندهاشي بدل أن يزول، فالسبب لم يكن متوقعاً.
كان مجلسه ثرياً ممتعاً لا تخرج منه إلا بفائدة أو عصف ذهني، حديثه مشوِّق واهتماماته مثيرة للاهتمام، شخصيته كانت لافتة، ولم أكتشف مدى عمقها مثلما اكتشفته في السفر.
طلب مني محمد ذات مرة إن أردت الذهاب في رحلة صيد أن أخبره ليصاحبني، فهو في حاجة لمثل هذه الرحلات لتصفية ذهنه. صادف أني كنت أنوي قضاء الإجازة السنوية في رحلة صيد طويلة مع أقاربي، فانتهزتها فرصة لدعوته، ولكني أعربت عن خشيتي ألا تعجبه، فسأل عن السبب، فأخبرته أن مدة الرحلة 20 يوماً ولا يوجد بها تغطية لشبكة الجوال، ولا يوجد فيها شبكة نت، وهو مولع ومهتم بمتابعة الأخبار الاقتصادية بشكل يومي، فأخبرني بأن هذا بالضبط ما يبحث عنه، فهو يريد الهروب والنفاذ بجلده من التقنية والحضارة وإدمان متابعة الأخبار، ليريح عقله وذهنه، فكان ذلك وسافرنا فعلاً.
بشكل مختلف عن شخصية المثقف الجدية المملة كان محمد مرحاً ضحوكاً وتلقائياً، ولا يخجل أبداً من تلقائيته وعفويته، ولا يتكلَّف أو يتصنَّع شيئاً ليس فيه، ولا يخاف من أن يخطئ، ولا يخجل من أن يسأل ويتعلَّم حتى في مجاله الذي نراه متفوِّقاً علينا فيه، فلا تستغرب إن أخذ رأيك في استثمار قبل دخوله، أو سألك عن رأيك في شركة ما هو أكثر اطلاعاً منك فيها، فهو غير تنظيري، ويؤمن أن للممارس ما ليس للقارئ، ولا تستغرب إن أبدى إعجابه بطبع فيك أو تصرّف ذكي منك أو أخبرك بأنه تعلَّم منك في هذا الموضع أو ذاك، وهذا خليط جميل ونادراً أن يجتمع في شخصية المثقف الذي اعتاد على صعود منبر الثقافة والتحدث عن المعرفة للناس، فانتبهت إلى أن تواضعه وصغر نفسه ولطافته وانفتاحه من أسباب استفادته وتعلمّه من الحياة بشكل سريع. كان مقبولاً محبوباً من الجميع، وكانت ردات فعله أمام المواقف الذي يمر عليه مشبعة بالحياة، فلم يكن بليداً بل متقد الذهن وحي القلب، يندهش وينبهر ويذهل ويحبط ويغضب ويفرح، يستأنس به كل من حوله، ويتفاعل معه، ويحرص على مشاركته كل صغيرة وكبيرة.
كان خفيف النفس سهل الإرضاء يستمتع بالتفاصيل الصغيرة وينتهك للحياة فيها، فكان ممتعاً أن تشاهد الحياة بزاويته التي ينظر منها، وتستمتع بفلسفته فيها وتحليلاته واستنتاجاته العميقة لتفاصيل لا ينتبه لها أحد، يذكرني دائماً بالعبارة التي تقول «أعيذك بالله أن تقرأ ما يدهش ولا تندهش».
لفت انتباهي في السفر أنه إذا تحدثت معه تفاعل معك، وإذا سكت أخرج هاتفه وبدأ بالقراءة، يقرأ لساعات والسيارة تهتز في طريق صحراوي وعر بشكل لافت للانتباه.
انتابني فضول لمعرفة ما الشيء المهم الذي يدفعه للقراءة وماذا يقرأ في هذه الظروف الصعبة وغير المحفزة، ولكني آثرت ألا أتطفل على خصوصياته.
في نهاية الرحلة وفي الطائرة بشرني بأنه انتهى من قراءة كتاب كان اشتراه سابقاً وتركه على رفت تطبيق iBook ووجدها فرصة نادرة لقراءته وأنه انتهى منه للتو؟ فدهشت ثم عتبت عليه وأخبرته بأن مثل هذه الرحلات وقت خاص مخصص للراحة لا للعمل وأن لنفسه عليه حقاً، فأخبرني بأن القراءة عادة يومية له يمارسها بتلقائية لا يستطيع أن يتركها، ثم سألته ما موضوع الكتاب، فأخبرني بأنه عن الاقتصاد، ومن أمهات الكتب، وأنه من 1000 صفحة! فعتبت عليه مرة أخرى، وأخبرته بأن مثل هذه الكتب ليست ككتب الرواية والقصص السردية، فهي دسمة وتحتاج إلى تفرغ، وتأني بالقراءة والاستنباط ومناقشة الأفكار غير المفهومة مع المختصين ونقدها والتفكير فيها، فضحك وأخبرني بأن هذا يكون في بداية تعلق الإنسان بالقراءة، ولكنه يتجاوزه بعد أن يصل إلى مخزون معرفي يعتمد عليه في تناول الأفكار الجديدة في ذات التخصص، وأن كثرة القراءة تمنحك لياقة عقلية تلتهم بها الكتب في وقت قصير وجهد يسير، فذهلت حقيقة، وذكرت الله عليه.
ألهمني محمد بسلوكه لا بكلامه، فتأثرت به لما شاهدته بعيني على مدار شهر تقريباً، تأملته فيها عن قرب، وصرت أقرأ الكتب مثله بتطبيق iBook بدلاً من الاعتياد على قراءة الكتب الورقية.
لم أكن أتأثر بنصائحه عن القراءة الإلكترونية أو معدل القراءة الشهري، ولكن كان لسلوكه بالغ التأثير علي في هذا الجانب، فتعلمت منه وهو يصغرني سناً.
عرفت من سلوكه واجتهاده وطاقته المتقدة سبب نبوغه واستثنائيته، فهو يبذل مجهوداً لا يستطيعه غيره، لذلك استحق التميز بكل جدارة، فمعدل تراكمية المعرفة عنده مهول، وأصدقكم القول أن لو ذكر ذلك لي وصفه لن أصدقه، وربما اعتبرت المتحدث مبالغاً في حديثه، ولكني رأيته بعيني وذهلت. لا يسعك إلا التفكير بمآلات شخصية كهذه، فمن إحسان الظن بالله سبحانه أن تتوقع لمثلها مناصب كبيرة مستقبلاً وشأناً عظيماً، فمثله أهل لذلك، بل هو بذاته كان مؤمناً بهذا، فلا يكاد يمر ذكر شخصية نادرة في مجال المال والاقتصاد، مهما بلغ حجمها إلا وتجده يبادر بالتعليق أنه سيصبح مثلها قريباً بكل تأكيد، وأن هذه الشخصية قدوة بالنسبة له، يقولها بطريقة يقينية صلبة وواثقة لا تقبل الشك.
إعجابي بشخصيته واستغرابي منها، دفعاني لمعرفة كيف تصنع مثل هذه الشخصيات، فالإنسان ابن بيئته، والبيئة هي التي تخلق الدوافع والحوافز والمنطلقات، ولا شك أن انتماءه لأسرة كريمة عرفت باهتمامها بالعلم والأدب والصحافة، يزيل كثيراً من الاستغراب، فالفضل لا يستغرب من أهله، فمحبته للشعر والأدب، وذكاؤه في التعامل مع الإعلام بشكل فطري وتلقائي مبرر، ولكن هذا ليس كافياً عندي، وليس تفسيراً شافياً على استثنائيته، فالمثابرة والمجهود الكبير يحتاج إلى دافع ومبرر أعمق وأسباب أقوى، فما هو سر هذا الوقود الذي لا ينضب، وهذه الطاقة التي لا تنفد، التي تجعله ينهم من العلم كل يوم بلا توقف ولا إجازة، من أين يجتلب هذه الطاقة وهذا الشغف العجيب؟ عرفت من محمد أنه متعلق بشخصية والده -رحمة الله عليهما جميعاً- والذي وافته المنية وقد كان هو في عمر صغير، مما كان له بالغ الأثر على شخصيته في تحمله المسئولية ونمو وعيه وإدراكه في عمر مبكر، وخلق الجدية بداخله وبعده عن صغائر الأمور.
نشأ محمد محباً للقراءة، فقد حفظ القرآن بعمر مبكر، وحفظ الأشعار الفصيحة والنبطية والقصائد الوطنية أيضاً بتشجيع من أسرته، فهذا الحد الأدنى من الثقافة المطلوبة عندهم للفرد. تستشعر منه دائماً أنه مدين لوالده، وكأنه يريد أن يصبح شيئاً ًكبيراً في حياته، وفاءً وبراً به، وليفتخر به، تشاهد هذا جلياً في استذكاره والده عند تحقيقه كل نجاح وخطوة كبيرة، ربما هذا سر الوقود العجيب الذي لا ينضب عنده، فلديه غاية وهدف واضح في الحياة.
مع أنه قضى سنوات طويلة في أمريكا، وأدمن قراءة الكتب العلمية الإنجليزية، ويتقن اللغة بجدارة، ولكنه مع ذلك لم يكن ممن يتباهى بها، ولا يستخدمها إلا إن لم يجد لها بديلاً عربياً دارجاً، بل كان يستشهد دائماً بحديثه بأبيات شعر وآيات قرآنية، فهو يعتز بهويته، وعلى أنه لم يكن ثرياً على المستوى المادي، مع أنه مولع بالاقتصاد وأسواق المال والأرقام، إلا أن النظرة المادية لم تطغَ عليه، فلم يكن يهتم كثيراً بالمظاهر، ولا يهمه كسب المال، ركوب سيارة أفضل أو الحصول على امتيازات أعلى، لا أذكر أني شاهدته يستخدم ساعة يد أو قلماً في جيبه، ولا يمانع باستخدام جهاز بشاشة مكسورة، وليس هذا من الحرص عنده، بل يفعلها زهداً، إذا أعطى المال للعامل ليشتري له أغراضاً لا يسأله عن الفاتورة، ولا يسأله عن الباقي، وكان لا يبذل مجهوداً يذكر في المفاصلة في الأسعار عند شراء أي سلعة، بل يدفع ما تقضى به الحاجة دون جدال، كان لا يعير أي اهتمام للمظاهر، بل يرى قيمته بعلمه ونفسه، والنجاح عنده لا يرتبط بالمادة على قدر اهتمامه بتحقيق الإنجازات الكبيرة، ففرحه بمشاركته في ندوة علمية أو إلقاء محاضرة، يعادل فرحه واعتزازه بتحقيق عائد استثنائي على محفظته الاستثمارية.
كان يحب الإنجاز والنجاح تحقيقاً لذاته، يستمتع بمتابعة الوثائقيات عن الشخصيات العظيمة كنوع من الترفيه، ثم يتحدث عنها بدهشة وإعجاب، مثلما يتحدث الآخرون عن مسلسلاتهم المفضلة، كان سخياً على نفسه باتخاذ القدوات، فلا تستغرب وجود صورة شخصية كإيلون ماسك -مثلاً- معلقة في مجلسه. تشعر من فرط طموحه -أحياناً- بأنه يتمنى لو أعطاه الله عمرين من الوقت ليحقق ما يريد من نجاحات. لا تهمه صغائر الأمور على حداثة سنه، وكانت متع الحياة عنده ممارسة رياضة المشي أو قراءة كتاب جميل أو السفر إلى مكان جديد أو مجلس محفوف بالممتعين من أهل الفكر والأدب.
فقدانه والده بعمر مبكر كان دافعه واضحاً له في الاعتماد على نفسه، وحافزاً لقضاء سنوات طويلة في الغربة لتحقيق شيء يستحق الرجوع به، كان هذا واضحاً في أدبياته وانتقاءاته الشعرية، فقد كان مولعاً بلامية الطغرائي، أو لامية العجم كما يسميها الأدباء ويحفظها عن ظهر قلب، ويشحذ هممه فيها كلما لامس منها خفوتاً، وكان دائم الوقوف عند البيت القائل:
إنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعوّل بالدنيا على رجل
وجد في أدبيات الطغرائي وحياته أنيساً لنفسه، فقد كان يرى نفسه مشابهاً له في الظروف القاسية والطموحات الصعبة، ولا أخفي سراً أني أعجبت بالقصيدة لما شاهدت من أثرها مترجماً على سلوكياته، فقد اتخذها منهج حياة.
كان المتنبي الشخصية الشعرية الأقوى عنده، فقد كان يحفظ أشعاره، ويستعجب من ذكائه في الفلسفة الاجتماعية، ويستشهد بأبياته في كثير من النقاشات، ويستخدمها في كثير من الإسقاطات.
على قدر هذه الجدية تجاه العلم واحترام الوقت، إلا أنها لم تلغِ الشخصية الطفولية المرحة التي في داخله، ولا يخجل من ممارستها وإظهارها بعفوية، فجعلته ممتعاً سهل المعشر، ولم يكن شخصاً مثالياً، فقد كان مرناً سمحاً متجاوزاً.
في تلك الرحلة البرية اتسع صدره وتأقلم بمرونة عجيبة، في اليوم الثامن عشر، زارنا أحد أعمامي وانضم للرحلة، وفي اليوم الواحد والعشرين، طلبني محمد على انفراد وأخبرني بأنه بنهاية هذا اليوم نكون قضينا 21 يوماً باليوم والليلة في الصحراء والعراء، فمتى نذهب إلى الفندق للاستحمام بماء دافئ، ونستخدم الواي فاي، فهو متعطش للحضارة، فأخبرته بأني أستطيع الرجوع به الآن، ولكني أستحي أن يظن عمي أن قدومه غير مرحب به لتزامنه مع مغادرته، ولا أحب أن أتركه يذهب وحيداً للمدينة، فهو في ذمتي حتى نعود إلى البلاد، فسألته إن كان يقدر على الصبر يومين إضافيين، فسأكون ممنوناً، فما كان منه إلا أن قبل دون كثير تفكير، وفعلاً انتظرنا عمي حتى غادر ثم غادرنا معه بعد خمسة أيام وليس يومين فقط، لكونه شخصاً لم يعتد على مثل هذه الرحلات الشاقة والطويلة، فهو إنجاز مبهر صراحة، فقد تفاجأت بأنه استمتع بها وانغمس فيها بدلاً من أن يشعرني بأنه تملل فانحرج.
كان دائم السؤال عن الحلويات في الرحلة، وأخبرته بأننا لا نستخدمها لأنها غير صحية، ونستعيض عنها بأكل الفاكهة، وعند طريق العودة توقفنا عند محطة للوقود وكانت فارهة، يتقدمها ميني ماركت حديث، وفيه رفوف مليئة بالحلوى من ماركات عالمية لذيذة، فما كان منه إلا أن نزل من السيارة وذهب إليها، فوجد الباب مقفلاً، فوضع يديه على الزجاج الخارجي للمحل ليحجب أشعة الشمس، وأدخل رأسه بينهما للمشاهدة وعيونه تلمع كأنه طفل من البادية قدم للمدينة للتو، وانتظر حتى عادت العاملة من استراحتها وفتحت له الباب، فإنهال بشراء كميات كبيرة من الحلوى، وعاد للسيارة وبدأ يأكلها بنهم حتى سالت الشوكولا على وجهه، فضحكنا بشدة، وضحك هو على نفسه. هذه الشخصية الطفولية اللطيفة كانت جانباً ممتعاً في شخصيته، لا يبذل جهداً في إخفائها، ولم يقتلها جدية العلم عنده.
في موقف آخر كان يستمتع بمشاهدتي أتشاكل وأتشاكس مع السائق الأجنبي الذي تربطنا به علاقة طويلة وأحب المزاح معه، فأنا اتهمه دائماً بأنه مراوغ ويتجنب الأجوبة المباشرة، فجرّب محمد أن يسأله ماذا ستفعل لو رزقت بمليار دولار، وكيف ستنفقها، فكانت إجابته أن أهم شيء الصحة والعافية.. إلخ، فاتهمته بأنه يمارس المراوغة كالعادة، في الليل وعلى مقربة من النار ذكر محمد القصة للجميع من باب التندر، ولكن عمي قاطعه وأخبره بأن السائق مراوغ الطبع فعلاً، ولكن هذا السؤال تحديداً يجعل مني ومنه أغبياء في تقييم شخصيته لأن السؤال غبي، فدهش محمد واستفسر عن الإشكالية بالسؤال، فأخبره عمي بأن السائق لا يمكنه تخيل رقم كهذا في مخيلته، فقد اعتاد على التعامل مع أرقام صغيرة، ولو أن السؤال كان برقم أصغر لكانت هناك إجابة. أعجب محمد بهذا التفسير، وانتظر الصباح بفارغ الصبر، وعندما ركبنا السيارة بادر بسؤال السائق فوراً.. ماذا ستفعل لو رزقت بمليون دولار، فكانت إجابته أنه سيشتري منزلاً، ويستخدم بقية المبلغ لإنشاء شركة سياحية، فضحك محمد بشكل جنوني وطفولي حتى استلقى على جنبه، وقال: «والله كلام عمك صحيح، طلعنا أغبياء فعلاً».
كان -رحمة الله عليه- كثير الثناء على الناس الجديرة بالثناء، ولا يحب ذكر مساوئ الناس، ولو ثبت عنده ذلك في مجالسه الخاصة، ويتعفف لسانه عن ذكر أحد بسوء، وكان كريماً مضيافاً يحب دعوة الجميع إلى مجلسه، ويحب إقامة الندوات والأمسيات، ويحب أن يكون سبباً في تعرف الناس على بعضهم، فإن وجد فيك شخصية جديرة بالاحترام والاهتمام، حرص على أن يشاركك كل أصدقائه، ولا يستأثر بك وحده. وكان حسن الظن بالجميع، فإذا رزق نجاحاً بشّر به كل أصدقائه ليشاركوه الفرحة ويشاركوا هذا النجاح، فقد كان يؤمن بالوفرة، وأن هناك خيراً كافياً للجميع.
في نهاية الرحلة، استغل وجود الجميع، فبادر بالسؤال.. ماذا استفدتم يا شباب من الرحلة؟، فكانت الإجابات أننا استمتعنا، وأن قدومه وتلبيته الدعوة كانت إضافة جميلة، ثم أعاد السؤال.. ماذا استفدتم على الجانب الفكري؟، فأخبرناه بأننا معتادون على مثل هذه الرحلات، وهي شيء مكرر عندنا، ثم بدأ بالحديث عن نفسه، وأخبرنا بأنه خرج من الرحلة بفوائد عظيمة، وبدأ في سردها، فأخبرنا بأن مثل هذه الرحلات لا يظهر إعلامياً منها إلا الحلقة الأخيرة، وهي فرح الصياد بتصوير صيده، ولكنه اكتشف أن خلف الكواليس عمل جماعي جبار، وجهد متعب يسبق هذا كله، وأنه مذهول من التناغم والتفاهم بين أفراد المجموعة بشكل تلقائي في توزيع المهام بذكاء، فقد لاحظ أن المجموعة تتنازل كلها بالسلطة والإدارة في كل موضع لمن يمتلك المهارة فيه، فتارة تتنازل لشخص في إدارة الغداء، ولا تتدخل فيه لمهارته في إعداد الطعام، وتارة تتنازل بالسلطة للبارع في اقتفاء الأثر وتترك القيادة له، وتارة أخرى تتنازل وتنقاد وتترك السلطة للأجدر بمعرفة الطريق، في أثناء حديثه كان لا يدري أنه يمتدح نفسه، فقد أعجب الجميع بفطنته وعمق تفكيره وتحليله لتفاصيل لا ينتبه لها أحد.
أسأل الله -عز وجل- أن يغفر له ويرحمه ويتجاوز عنه، سيترك محمد فراغاً لا يسهل ملؤه، فقد كان استثنائياً في جيل الشباب، أثرى صفحاته بعلم ينتفع به، أسأل الله أن يتقبله صدقة جارية عنه، وأن يكون شاهداً له لا عليه.
اللهم ارحم محمداً ووسّع مدخله وثبته عند السؤال واغفر له وتجاوز عنه، واجمعه بوالده في جنات النعيم، وارزقنا أن نوفي بعهد الصداقة معه.
** **
- بقلم: تركي القنيبط