منصور ماجد الذيابي
قبل توضيح رؤية المكتبة العربية أودُّ أولاً أن أوجز لشريحة القرّاء نبذة مختصرة عمّا أوردته بعض الدراسات السابقة حول تاريخ المكتبة العربية من حيث نشأتها ومراحل تطورها عبر العصور الماضية. وانطلاقا من العصر الجاهلي - وفقا لما ورد في بعض المصادر العلمية - نجد أنه لم يكن موجودا في هذا العصر ما يسمى بالمكتبة أو حتى الكتابة. وكان الشاعر الجاهلي عندما ينظم قصيدته يحفظها في ذهنه ومن ثم تنتقل عبر الرواة إلى المجتمع الذي يتناقلها بدوره. فلم يكن لدى العرب من العلوم سوى الشعر. فهو ديوان العرب. وفي ذلك العصر وصل العرب إلى مستوى رفيع جدا من البلاغة والفصاحة والبيان. وعندما نزل القرآن الكريم على محمد- صلّى الله عليه وسلم- أخذ عليه الصلاة والسلام يتحدّى العرب بأن يأتوا بمثله حتى أنه قال: «أؤتوني بحديث مثله».
وكما جاء في تلك المصادر فقد بدأ اهتمام العرب بالقرآن ودراسته وحفظه. وأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بكتابة القرآن وحفظه والعمل به. وكان أول عمل قام به عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- هو جمع القرآن الكريم وكان مكتوبا في الرّقاع ومحفوظا في صدور الصحابة. وقد أمر بحرق ما سوى ذلك. فكُتبَ المصحف العثماني بصورة منظمة ودقيقة، وبعد ذلك جاء الاهتمام بالحديث وأمر الخليفة بكتابته ونقله من الرواة والصحابة، ثم تلا ذلك الاهتمام بالشعر العربي، فتم تدوين الشعر. وكان أول مكتبة في الإسلام هي بيت الحكمة أو دار الحكمة في بغداد.
وقد ورد في المصادر التي تعنى بالأدب العربي أن هارون الرشيد أسس دار الحكمة لتكون مقرا لنقل العلوم من اللغات الأجنبية للغة العربية وقسّمها إلى أقسام عدّة لمختلف العلوم والدراسات الإنسانية الأخرى. وزوّدها بأنواع الكتب من شتى العلوم والفنون. وبعد وفاة الرشيد خلفه ابنه المأمون، وكان المأمون يراسل ملوك العالم ويتبادل معهم الكتب التي يعهد بها فيما بعد إلى قسم التوجيه الذي لعب دورا بارزا في نقل العلوم والمعارف إلى الدراسات الإسلامية. ولقد تطوّرت دار الحكمة في عهد المأمون حتى أصبحت أشبه ما تكون بأكاديمية علمية. فلم يقتصر دور المكتبة على الكتب والترجمة، وانما زوّدها بمراصد فلكية.
فاستمرّت دار الحكمة في نشر العلم في عهد الدولة العباسية ولكن ما لبثت هذه الدار حتى ضعُفت وتقلّص نشاطها. وعندما وصل المغول لهذه البلاد، أحرقوا هذه الكتب كما أخبرتنا المصادر العلمية ورموها في نهر الفرات حتى قيل إن النهر قد تلوّنت مياهه باللون الأسود من كثرة الأحبار الموجودة في الكتب.
بعد هذه الخلفية التاريخية التي نصَّت عليها الدراسات السابقة أرى أن المكتبة لا زالت تتمثل أمامنا منذ حقبة دار الحكمة في بغداد بنفس حلّتها التقليدية دون أن تتمكن من المضي قدما في مسيرة التطور لأجل الخروج من مجال الإطار التنظيمي المألوف والعمل التقليدي المعروف في أروقة المكتبات وأقسامها المختلفة بغية الوصول لأفق يسمح بإحداث نقلة نوعية في جودة الخدمات التي تقدّمها المكتبة.
ومن أجل تحديث وتغيير النظرة الشمولية النمطية السائدة للمكتبة العربية عامة، فإني أرى أنه ينبغي علينا التفكير في كيفية خلق أفق جديد ينسجم مع الرؤية السعودية التنموية الشاملة 2030 التي ينظمها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه-.
لذلك أرى أن نهتم بتطوير مفهوم المكتبة ونبدأ من حيث توقف الباحثون السابقون الذين بذلوا جهودا كبيرة في الاعتناء بالكتاب والارتقاء بمستوى الخدمات التي توفرها المكتبة لطلاّب العلم والقرّاء عموما.
وفي تقديري أن مواكبة مسيرة التطور والنّماء في المجالات المعرفية الأخرى يتطلب منّا أيضا التفكير في إنشاء منصّة وطنية إلكترونية تعنى بعرض وإهداء وإعارة وإعادة تنظيم وفهرسة وتصنيف وترجمة خزائن المكتبات الوطنية من الكتب النادرة والمطبوعات والمخطوطات وقواعد البيانات بحيث يمكن الوصول إلى هذه الكتب واستعراض كل ما تحويه المكتبة من المصادر المعرفية المختلفة. وبالتالي يمكن للمتصفّح طلب استعارة وتوصيل المادة المطبوعة عبر خدمة بريد واصل إلى العنوان الوطني الخاص بمقدّم الطلب.
ومن ناحية أخرى، ولأجل تغيير الوسائل التقليدية لاستخدام المكتبة كالدخول إلى قاعات الاطلاع ومكاتب إعارة الكتب والرسائل العلمية، فإنني أقترح لو يتم تركيب شاشات عرض كبيرة بحجم شاشات العرض السينمائي في أماكن التجمّعات كالحدائق والمتنزهات العامة والمولات التجارية ومحطات القطار بحيث يتم عرض قائمة لأفضل الكتب النافعة والرسائل العلمية والمنشورات والمطبوعات الأخرى على أن تكون هذه الشاشات متصلة بالمنصّة الرئيسية ومرتبطة تقنيا بغرفة تحكم تكون مسئولة عن نشر وعرض خلاصة تعريفية لما تحويه الكتب ذات القيمة العلمية عبر هذه الشاشات.
وبذلك سوف لن نحتاج إلى التوسّع في إقامة معارض الكتاب، ولن نضطر إلى زيادة المشاركة فيها داخليا وخارجيا مما يسهم في تقليص حجم التكلفة المالية الباهظة لتغطية نفقات شحن الكتب وعرضها في دور العرض التي توفرها الدول المُضيفة.
كما ستحقق لنا هذه المنصّة الالكترونية ما لا يمكن تحقيقه بتكبّد عناء زيارة المكتبات العامة في المدن الرئيسية للحصول على المادة العلمية التي نبحث عنها لمجرد الاطلاع على المحتوى ولاسيما وأن فكرة الذهاب إلى المكتبة في أوقات محددة ثم البدء بعملية البحث التقليدية لا يتواكب مع سرعة إيقاع الزمن الذي نعيش فيه.
وإني على يقين بأن هذه المنصّة وتلك الشاشات سوف تسهم في سهولة الوصول للكتاب ومعرفة الجديد في عالم النشر مع إمكانية طلب أي كتاب من خلال الدخول على المنصة الوطنية وطلب خدمة التوصيل على غرار ما تقدّمه لنا منصة أبشر الوطنية. كما سوف تساعدنا هذه الرؤية الجديدة في خلق الآلاف من فرص العمل لأبنائنا وبناتنا.
وانطلاقا من مبدأ تحفيز الناشئين على القراءة، فان منصّة المكتبة العامة ستساعد طلاب العلم على توفير الوقت والجهد في عملية البحث عن المراجع العلمية التي يطلبها أستاذ المقرر الدراسي من طلابه والتي قد لا تتوفر في المكتبة الجامعية.
علاوة على ما ذكرته، فإن المؤسسات الإعلامية يمكن أن تلعب كذلك دورا محوريا لإبراز ملامح هذه الرؤية التي تستهدف تغيير الانطباع السائد عن دور المكتبة في تنمية الانسان، ومحاولة الانتقال من مرحلة إجراءات العمل التقليدية للمكتبة إلى مرحلة جديدة تجعلنا قادرين على استقطاب كل أفراد أمة اقرأ والوصول اليهم في أماكن تواجدهم بدلا من الاكتفاء بدعوتهم لزيارة مقر المكتبة المركزية الأمر الذي يشكل عبئا ثقيلا في استقبال أعداد هائلة قد تفوق الطاقة الاستيعابية للمكتبات العامة والخاصة ناهيك عن صعوبة توفير العدد الكافي من الموظفين لإرشاد جميع روّاد المكتبات في توقيت محدّد وفي مكان محدود. ومن هنا سوف يتمثل أمامنا الخيار الأفضل بأن نقلب المعادلة لنجعل المكتبة تتوشّح حلّة جديدة وتقوم بزيارة المهتمين بالقراءة في أماكن تواجدهم بدلا من أن نطلب منهم التوجه لزيارة المكتبة.