د. محمد بن يحيى الفال
لعل المقولة التراثية العربية الشهيرة المعبرة عن التشبث بالرأي مهما كانت الوقائع دامغة «عنز ولو طارت»، تنطبق تماماً على أحداث محاكمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذلك بأنه وبرغم كافة الدلائل الواضحة للبيان التي عرضها النواب الديموقراطيين مراراً وتكراراً لمجلس الشيوخ وجوهرها يتمثل بأن الرفض الممنهج من قبل الرئيس ترامب لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية حتى قبل إجرائها كان من وراء الأحداث غير المسبوقة التي تعرض لها رمز الديموقراطية لبلاد العم سام، الكونجرس الأمريكي. تعززت هذه المقولة وبأنه وبالكاد انتهى التصويت في مجلس الشيوخ الذي تم فيه تبرئة الرئيس من تهمة التحريض على حكومة الولايات المتحدة، صرح زعيم الأقلية الجمهورية في المجلس السيناتور المخضرم عن ولاية كنتاكي ميتش ماكونيل بتصريحات كال فيها اللوم ضد الرئيس ترامب منتقداً دوره الواضح فيما حدث للكونجرس في السادس من شهر يناير المنصرم.
وجه الغرابة هنا بأن ماكونيل وبالرغم من كل هذا النقد للرئيس فقد صوت لصالح تبرئته متعذراً بعدم دستورية العزل بكون الرئيس ترامب خارج السلطة وهو موقف تبناه غالبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ باستثناء سبعة منهم انضموا لكل الديموقراطيين الخمسين في المجلس الذين صوتوا مع إدانة الرئيس في التهمة الموجهة ضده والمتمثلة بالتحريض ضد حكومة الولايات المتحدة ولتكون النتيجة النهائية 57 مع الإدانة والعزل و 43 ضد الإدانة والعزل، وهي النتيجة التي لم تصل إلى النصاب المطلوب لإدانة الرئيس وهو ثلثا مجلس الشيوخ (67 صوتا) المكون من مائة سيناتور بواقع اثنين منهم لكل ولاية من الولايات الخمسين المكونة للاتحاد الفيدرالي الأمريكي.
التاريخ الأمريكي شهد أربع محاولات عزل للرئيس اثنتين منها كانتا من نصيب رئيسين من الحزب الديموقراطي هما الرئيس الأمريكي السابع عشر أندرو جونسون (1868) والرئيس الأمريكي الثاني والأربعين بيل كلينتون (1998) وتمت تبرئتهما من التهم التي وجهت إليهما بسبب أصوات حزبهما وهو الأمر الذي حدث تماماً مع تبرئة الرئيس ترامب من محاولتي عزله والتي دخل فيها التاريخ السياسي الأمريكي ليس فقط بكونه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي شهدت أروقة مجلس الشيوخ الأمريكي سجالات عزله مرتين، بل كذلك بكونه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي جرت محاكمة عزله وهو خارج السلطة ومسجلاً رقمين لم يسبقه بهما أحد من الساسة الأمريكيين أولهما تسجيله تعادلاً لحزبه الجمهوري في عدد محاولات العزل للرؤساء الأمريكيين مع منافسيهم الديموقراطيين بحالتي عزل رؤساء من حزبهما هما الرئيس جونسون وكلينتون بفارق زمني يقدر بمائة وثلاثين عاماً، وثاني أرقام الرئيس ترامب القياسية هو أنه بالكاد سنة واحدة فقط فصلت بين محاولتي عزله الأولى والثانية.
معضلة إدانة وعزل أي رئيس أمريكي مهما وضحت وتراكمت للعيان أدلة وقرائن تؤكد استحقاقه لذلك تكمن صعوبتها وعدم تمريرها عملياً لمحورين أساسيين هما في ماهية بند العزل التي تضمنها الدستور الأمريكي وتركيبة الحياة السياسية الأمريكية المكونة من حزبين رئيسين هما الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي. الدستور الأمريكي الذي كتب ووقع عليه في فيلادلفيا عام 1787م يوضح في الفقرة الرابعة من مادته الثانية ماهية العزل كالتالي «يعزل الرئيس ونائب الرئيس وجميع موظفي الولايات المتحدة الرسميين المدنيين من مناصبهم إذا وجه لهم إتهام نيابي بالخيانة أو الرشوة أو أية جرائم أو جنح خطيرة أخرى وأدينوا بمثل هذه التهم», كاتبو الدستور أو الآباء المؤسسون وكما يحلوا للمشرعين الأمريكيين تسميتهم تركوا تحديد تفاصيل الجرائم المستحقة للعزل مفتوحة لمن يأتي من بعدهم، وهو الأمر الذي رأينا كيف أنه أضحى جوهر كافة الاختلافات والنقاشات بين الفرقاء والمحامين في محاكمات العزل الثلاث التي تم توثيقها صوتاً وصورة، إحداهما للرئيس بيل كلينتون واثنتان للرئيس دونالد ترامب.
محور التركيبة السياسية الأمريكية والمكونة أساساً من الحزبين الجمهوري والديموقراطي هي الأخرى عائق لجعل عزل الرئيس واقعاً ملموساً، فلائحة اتهام العزل تحتاج بادي القول لأغلبية أصوات لتمريرها من مجلس النواب ثم تحتاج بعد ذلك لثلثي مجلس الشيوخ لتمريرها، وهو الأمر الذي أثبتت تجارب العزل الثلاث استحالة تحقيقه وبأن الولاء للحزب والخوف على المنصب هو الهاجس المُسيطر عند التصويت. عليه وكما بدا للجميع في فشل محاكمة إدانة الرئيس ترامب والمعززة بالبراهين والقرائن جعلت الكثير من الساسة الأمريكيين يضعون في الحسبان وبجدية وللمرة الأولى في التاريخ السياسي الأمريكي حتمية تواجد حزب ثالث يكسر سيطرة الحزبين على واقع الحياة السياسية الأمريكية.
من الناحية العملية فهناك عدد من الأحزاب في الولايات المتحدة غير الحزبين الجمهوري والديموقراطي، بيد أن تأثيرهم في الحياة السياسية الأمريكية شبه معدوم ومن هذه الأحزاب حزب الخضر، حزب الحرية ذو الميول اليسارية والحزب الدستوري والذي يمثل أيدلوجية أقصى اليمين. كذلك هناك ساسة أمريكيون فطنوا لخطورة تحكم حزبين فقط في الحياة السياسية الأمريكية ولعل أشهرهم في هذا المجال رالف نادر المحامي والناشط السياسي الأمريكي من أصول لبنانية والذي لاقت أفكاره حول حقوق المستهلك الكثير من التأييد والمناصرة لدى قطاع كبير من الرأي الأمريكي وترشح لمنصب رئاسة الولايات المتحدة عدة مرات كمستقل وعن حزب الخضر، ولم يحقق اختراقاً لسيطرة الحزبين الديموقراطي والجمهوري وهو الأمر الذي فشل فيه كذلك السياسي والملياردير من ولاية تكساس روس بيرو والذي توفي في الآونة الأخيرة وحاول كسر سيطرة الحزبين بتأسيسه لحزب الإصلاح وترشح للرئاسة مرتين وفشل.
جدية وحتمية إنشاء حزب ثالث نراه الآن في الغضب العارم الذي عم قطاعا واسعا من كبار المنتمين للحزب الجمهوري والذين رأوا في فشل نظرائهم في الحزب من أعضاء مجلس الشيوخ في إدانة الرئيس ترامب، رأوه خيانة لمبادئ الحزب وبأن حزبهم لم يعد الحزب الجمهوري بل حزب الرئيس ترامب والذي صرح بذلك علانية نجله دونالد ترامب الابن وذلك في أحد الخطب أمام حشد من مناصري والده قبل فترة وجيزة من أحداث الكونجرس، معقل الديموقراطية الأمريكية.
خلال اقتحام الكونجرس رأينا كيف أن بعض المقتحمين كانوا يحملون الأعلام الكونفدرالية التي تمثل الولايات الجنوبية في غالبها والتي حاربت الولايات الشمالية فيما يعرف بالحرب الأهلية الأمريكية التي استغرقت أربع سنوات (1861- 1865)، الحرب انتهت بانتصار الشماليين وتحقيق الوحدة الفيدرالية التي تعيشها أمريكا حالياً. في مقابل الفكر الانفصالي وتفوق العرق الأبيض والذي تمثله لحد كبير الراية الكونفدرالية رأينا شجوناً أميركية إيجابية في مناقشات العزل بمجلس الشيوخ تمثل قوة أمريكا المتمثلة في تنوعها العرقي وقدرتها على تصحيح مسارها، رأينا ذلك ومن خلال بوتقة الصهر العرقية التي تميزها «The American Melting Pot»، فهذا رئيس الادعاء النائب الديموقراطي اليهودي جيمي راسكن «Jamie Raskin»، وهو يقدم أدلة إدانة الرئيس بالتحريض على الحكومة الأمريكية وذلك بكل مهنية واحترافية متناسياً بأنه في وقتها كان للتو قد فقد ابنه المقرب إلى قلبه وتعرضت ابنته لخوف شديد بسبب صراخات الرعاع الذين اقتحموا مبنى الكونجرس حيث كانت والعائلة في زيارة للمبنى في يوم التصديق على نتائج الانتخابات، وهذه ستيسي بلاسكت «Stacey Plaskett» النائبة من الجزر العذراء الأمريكية تسجل سبقا تاريخيا بكونها المرة الأولى التي تترافع فيها نائبة في مجلس الشيوخ من أقاليم لا يحق لقاطنيها التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وكما هو حال كل الأقاليم التابعة لأمريكا من غير الولايات الخمسين، شاهدناها وصوتها الجهوري يصدح في قاعة مجلس الشيوخ دفاعاً عن قيم الجمهورية، ورأينا هذا النائب اليافع من ولاية كولورادوا جو نيقوص «Joe Neguse» الابن لمهاجرين من إرتيريا وهو يتحدث بحب وعاطفة جياشة ومشاعر تفيض بالولاء للقيم الأمريكية.
سقطت المحاولة الثانية لإدانة الرئيس ولكن نجحت أمريكا في نهاية المطاف برسالة للعالم أجمع فحواها بأن الانتماء للحلم الأمريكي لن تقف في تحقيقه أي صعوبات مهما قست، ففي أمريكا هناك دوماً بصيص ضوء وأمل في نهاية النفق المظلم.