عبدالوهاب الفايز
العودة إلى التلويح باستخدام أوراق الديمقراطية وحقوق الإنسان من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة تثير التخوف من المشروع لدى شعوب المنطقة، فتجاهل قضايا كبرى في العالم، والتركيز على أمور فردية، يجعلان أمريكا تقول لشعوب المنطقة إنها غير جادة لدعم جهود إحلال السلام ومحاربة الإرهاب ودعم التنمية الاقتصادية في المنطقة، أي إنها مستمرة في تبني السياسات والأهداف الاستراتيجية لإخضاع المنطقة إلى (حالة عدم الاستقرار). هذا هو التفسير الذي نراه لعودة الإدارة الجديدة لطرح موضوعات تختلف التقييمات حولها. هذا التوجه ماذا يخدم؟
الذي نعرفه أن أمريكا بنت استراتيجيتها في المنطقة منذ منتصف القرن الماضي على أهداف ومصالح مؤسسة الحكم في الدولة العميقة، وهي (كارتل النفط) و(كارتل المال). هذا التجمع للمصالح هيمن على صناعة التوجهات الاستراتيجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ومنطقة الشرق الأوسط، منذ اكتشاف النفط بكميات كبيرة، دخلت في المجال الحيوي الأمريكي والأوروبي والسوفييتي. وأصبحت المنطقة لعبة الأمم الصاعدة من جديد بعد أن كانت ميدان تنافس وصراعات الإمبراطوريات السابقة التي أنهكت المنطقة وفككتها عبر (اتفاقية سايكس بيكو) التي أسست للصراعات في المنطقة، وقلبت تركيبتها السكانية، وأسست حروب الطوائف والعرقيات وصراع الهويات.
الأسبوع الماضي، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، في المؤتمر الصحفي اليومي، ذكر أن قضايا مثل (حقوق الإنسان والديمقراطية، والحقوق المدنية، والحريات المدنية) ستكون من الموضوعات التي سوف تحرص وزارة الخارجية على جلبها في المحادثات العامة. هذا التأكيد المتجدد على هذه القضايا تشكر عليه الوزارة، فليس هناك ما يقلق حولها؛ فهي قضايا مصيرية أساسية للبشرية، نتمنى أن تعمل عليها كل الدول الكبرى.. ولكن بإخلاص، وبدون ازدواجية في المعايير.
طبعًا هذه القضايا تظل نسبية، وتختلف آليات التعامل معها في الدول، وشعوب العالم، التي ظلت في السنوات القريبة الماضية ترى الاعتداء على الحقوق المدنية وعلى حريات الأقليات، سواء في أمريكا أو في أوروبا الغربية. ربما لن تجد النموذج الإيجابي في الممارسات الديمقراطية. والرئيس بايدن وصف تبرئة ترامب من الكونجرس المنتخب بـ(الفصل الحزين من تاريخنا الذي يذكرنا بأن الديمقراطية هشة).
التعامل مع الحريات والاتجاه إلى مقومات الحكم الصالح الذي ينتج البناء والاستقرار لحياة الناس يمكن الوصول إليه بطرق عدة. الصين لم تقل للعالم إن لديها أفضل ديمقراطية، ولكن الحكومة الصينية المركزية حققت للشعب الصيني في أربعين عامًا ما حققته أمريكا وأوروبا في قرن ونصف القرن، ولم تدخل في حرب، أو تستعمر شعوبًا كما فعل الاستعمار الغربي الذي نهب ثروات إفريقيا وآسيا. والصين حولت في عشرين عامًا 700 مليون فلاح فقير إلى طبقة وسطى، تنتج وتستهلك بالمعدلات الأوروبية والأمريكية.
في المقابل، الديمقراطية الأمريكية أنتجت نخبة سياسية، قادت البلاد إلى مستويات من الخلل في توزيع الثروة. ففي العشرين عامًا الماضية تضاعفت ثروة 20 في المئة من السكان عشرين مرة، وظل التفاوت ينمو حتى وصل الخلل إلى (واحد في المئة). وهذا التفاوت الكبير أنتج الحركة السياسية المشهورة التي حركت غريزة الطبقة الوسطى التي لم يتغير متوسط دخلها لأكثر من أربعين عامًا، وهي التي انتخبت ترامب!
في المملكة ليس لدينا أية مواقف سلبية أو متحفظة من طرح قضايا حقوق الإنسان ومسائل الحريات المدنية؛ فهذه أمور لم نتحاشَ الحوار حولها أو إنكارها؛ فالمحافظة على الحقوق والحرمات الشخصية هي مبادئ مستقرة في التشريع الإسلامي، والملك عبدالعزيز - رحمه الله - وضع هذه المسائل في مقدمة مشروعه، وهي التي تحولت إلى القوة الدافعة الحقيقية التي قلبت الخصوم إلى حلفاء، وأطلقت مشروع الوحدة الوطنية الذي تم تعزيزه وتكريسه بالسعي الدائم إلى تحقيق مقومات الحكم الصالح.
تتحقق لدينا هنا في المملكة الآن مقومات الحكم الصالح عبر محاربة الفساد، وتكريس قيم العدالة والنزاهة، فنحن نعمل منذ سنوات على تطوير تجربتنا المحلية لحوكمة عمل الحكومية، وعمل قطاع الأعمال، إضافة إلى ضبط الفضاء العام لضمان عدم الاعتداء أو تجاهل الأمور التي تمس حقوق الإنسان وسلامته. والحمد لله أننا قطعنا شوطًا مهمًّا في هذا المجال، وما زلنا نتوسع في تطوير البيئة التشريعية. وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أعلن مؤخرًا تطورًا نوعيًّا، استهدف (استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وترسخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان، وتحقق التنمية الشاملة، وتعزز تنافسية المملكة عالميًّا من خلال مرجعيات مؤسسية إجرائية وموضوعية واضحة ومحددة).
أغلب الدول في الشرق الأوسط تحاول أن تجد الطريق الذي يخرجها من البؤس والخراب الاقتصادي. والدول الكبرى التي تتسبب في مأساة الشرق الأوسط واجبها الأخلاقي والإنساني والاقتصادي أن تساعد على بناء مقومات السلام عبر محاربة مشاريع الشر والتخريب مثل المشروع الإيراني، وعبر إلزام إسرائيل بالسلام العادل مع الفلسطينيين، والأهم عدم استخدام المنطقة وثرواتها وموقعها الجغرافي في الصراع والتنافس الدولي.
إخضاع المنطقة لحالة عدم الاستقرار، وتفريغها المستمر من ثرواتها، أصبحا لعبة مكشوفة، بالذات حين التلويح بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان!