د.فوزية أبو خالد
لم أُنهِ مقالي القليل في حق د. عبد الله مناع إلا وبلغني متأخراً رحيل الغالية د. هناء الزهير -رحمهما الله-، ومع إحساسي بأن من حق القراء على قلمي في هذه «المساحة الكتابية الثمينة» التي تمنحني جريدة الجزيرة ورئيس تحريرها العزيز أ. خالد المالك، أن أقدم مادة قرائية متنوعة في مواضيعها وفي طروحاتها، فلا أجمع أو بالأحرى أتحرَّى ألا أجمع في مقالين متواليين نفس الفكرة، إلا أنني في مقال الأسبوع الماضي ومقال هذا الأسبوع أعد نفسي والقراء بل وجريدة الجزيرة على موعد مع المجد والوفاء بالكتابة عن شخصيتين نادرتين من رعيل المؤسسين أدباً وعلماً في مجال الصحافة د. عبد الله مناع، وفي مجال الصيدلة د. هناء الزهير.
***
د. هناء الزهير برفسورة الصيدلة بقسم الصيدلة بكلية العلوم بجامعة الملك سعود وعدد من المؤسسات الأكاديمية العربية والعالمية، جللها الله برحمته وأكرمها عز وجل بإحسانه وفضله وعوَّض صبرها المعرفي والحياتي بالخلود في رحاب رحمته، كانت سيدة بكل معنى الكلمة جمالاً وأخلاقاً وعلماً وروحاً ومكارم يومية، توزعها دون نفاد على أهلها وطلابها وجيرانها وأصدقائها ومحبيها الكثر.
وقد كنتُ من حظي -بفضل الله- أحد خلصائها بالكلمة الحلوة والدعاء وبالنهل من معينها، وبالتزاور معها، وإن طال فيما بعد حبل المسافة بيننا وباعدت بيننا الأمكنة، بعد تزامل جميل بالجامعة في جيرة محسنة لا ينسى أنسها بسكن جامعة الملك سعود بالدرعية. وقد كنا في تلك الأيام المبتعدة قبل حلول الألفية الثالثة وبعدها نمشي في المساءات الربيعية معاً أو مع زميلات أخريات منهن أستاذة علم النفس الإكلينيكي د. هناء المطلق، بروفسور الرياضيات د. سميرة عبد الحميد وأ. الصيدلة أيضاً د. هزار إبراهيم، على الممشى العشبي المعد أمام ملاعب الأطفال، نلوح على استحياء أو يلوح لنا بعض الزملاء من بعيد لو صدف وميزناهم أو ميزونا نظراً للبعد المضروب في تلك المرحلة من عمر الجامعة بين جامعة الملك سعود الأم وبين مركز الدراسات الجامعية للبنات بشقيه للعلوم الاجتماعية بعليشة وللعلوم الطبيعية بالملز.
كما كنا قد نتصاحب أحياناً د. هناء وأنا في «الأتوبيس» الذي كانت تسيِّره إدارة سكن الجامعة بالدرعية يومين في الأسبوع إلى المرافق التجارية مثل «اليورومارشيه» و»سوق الديرة». فتساعدني -رحمها الله- بأريحية أخت كبرى في حمل أغراضي وفي مراعاة أطفالي، وقد كانت تملك شغفاً لا يحد بالطفولة بل إنها نفسها كانت تتمتع ببريق الأطفال في عينيها وبصدقهم في عاطفتها بجانب ما تملك من حنان حازم أو حزم حنون لافت في التعامل مع الأطفال.
هذا عدا عن موعد لقائي الخميسي الصباحي مع د. هناء الذي نادراً ما ينقطع بمكتبة جامعة الملك سعود الأم (مكتبة الملك سلمان الآن) التي لم تكن تفتح أبوابها حينها للسيدات من أستاذات وطالبات إلا يوم واحد في الأسبوع هو يوم الخميس. وقد وجدت في رفقة د. هناء الزهير في مختلف المواقع ملاذاً للوجدان وللفكر، فصحبتها فائدة ومتعة ومرح وعمق وعلم وشرف... وأحمد الله أن جمعتنا المودة والأخوة حتى بعد أن جرى التعجل عليها لتترك الجامعة وتخلي السكن بمجرد أن بلغت العمر الإداري للتقاعد، مع أنها كانت لا تزال في عنفوان عطائها الأكاديمي ولياقتها الفكرية والمعرفية، وقد امتد حبل الوصل بيننا محبة في الله وأواصر صداقة وتقدير ووفاء إلى ما شاء الله، فكانت من رواد الملتقى الأحدي الشهري. وحضرت زفاف أبنائي بزهو وفرح وكأنهم أبناء حشاها وحجرها.. ولم يقطعنا عن اللقاء مع خلصاء لنا من الصديقات أو الزميلات المشتركات كالدكتورة فاطمة جمجوم ود. هتون الفاسي ود. عواطف سلامة ود. سعدية عثمان ود. مشاعل العبد الله إلا الترحال العلاجي.
رحم الله تلك العالمة المحسنة النجمة شديدة الضياء التي غادرت على حب للعلم وللناس والخير ولتراب الأرض سواء في مربى طفولتها أو في منبعها الأسري من حريملاء أو كل مكان أزهرت فيه د. هناء الزهير.
رحم الله د. هناء وأحسن بفضله لأختها لمعان التي عاشت معاناة سنواتها الأخيرة بكل محبة وتفان وحافظت لها وهي على سرير الألم على زمرد الأمل وعلى منجم الدعاء وعلى صداقاتها البعيدة. وجزى الله د. مشاعل بنت محمد كل خير على وقوفها بجانبها بكل الحب، دون معرفة شخصية بها، يوم تعثرت بعض أمورها الإدارية للسفر العلاجي، بسبب من التشدد وقتها على سفر المرأة واستخراج «جواز سفر» لنفسها بنفسها وإن لم يوجد لديها «عائل»، وكان سفرها لغرض علمي أو استشفائي.
أحسن الله عزائي في تلك الأستاذة القدوة والصديقة الصادقة وأحسن الله عزاء حريملاء وكل المملكة العربية السعودية وطلابها وأهلها وصداقاتها عبر العالم العربي ومانشستر، رحم الله د. هناء الزهير وأزهر ثراها.
***
أرواح سامقة سبقتنا بالأمس معرفياً سارت على طرق لم تكن معبدة إلا بحلاوة الأحلام وعذوبة الصبر، واليوم تسبقنا إلى دار الحق وتترك في أعناقنا أمانة الحفاظ على رفيف الأجنحة وشعلة الضوء، رحم الله د. عبد الله مناع كاتباً وصحفياً وعلماً ورحم الله د. هناء الزهير أستاذة وباحثة وراية.