رجاء العتيبي
لا يمكن أن يتطور أي مجتمع وهو يرزح تحت أيديولوجية ما، أيًّا كان شكلها ونوعها؛ لأن (الأحادية) مصيرها الهلاك، وهذا ما أشار إليه محمد شحرور -رحمه الله- بالتفصيل وبشكل دقيق لم يسبقه إليه أحد، وذلك عندما استقاها من القرآن الكريم، وسماه (هلاك القرى وازدهار المدن)، في لفتة قلما تجدها عند مفكر آخر.
والقرى في القرآن الكريم لا بد هالكة قبل يوم القيامة، ولكن الهلاك يعود إلى أن القرى من طبعها (الأحادية) وهي فيروس الهلاك، أما المدن التي تعيش وفقًا للتعددية والتنوع لا تموت بل تزدهر. والقرى لا تعني البلدات الصغيرة، وإنما كل مجتمع تدثر بأيديولوجية واحدة، وصبغ الناس بها. هذه المجتمعات لا بد هالكة.
حتى أمريكا نفسها لو تغلفت بأيديولوجية معينة، واستمرت عليها زمنًا تهلك؛ لأن ذلك سنة كونية. الحياة خلقها الله للتنوع والتغير والتعدد والتحول والتطور، ولا يمكن أن تثبت الحالة على نمط واحد، لا فكرًا ولا شكلاً ولا سلوكًا. كل شيء متغير ما عدا الله وحده باق، ثابت، دائم. قال تعالى: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (الإسراء، آية 58).
الآية هنا تشير إلى كل القرى (تعميم)؛ لهذا يتوقف شحرور ويبيّن أنها القرى (المؤدلجة) بمعنى أي مجتمع في أي مكان في أي زمان يتصف بذلك يهلك، وله في ذلك تفصيل يستحق الوقوف، ومنه نعرف خطورة الأيديولوجيا أيًّا كانت. ولا سبيل للعيش الكريم والحياة المزدهرة إلا بالتعدد والتنوع بالشكل المدني وليس بالشكل الطائفي أو الحزبي أو العنصري أو العرقي. مأسسة الطائفية باعتبارها تنوعًا كارثة كبرى.
الأيديولوجيا نظام مغلق، ينكفئ على ذاته، وإذا طال به الزمان احترب داخليًّا، وتناحر، ثم يتقسم إلى أيديولوجيات صغيرة وهكذا، يأكل بعضها بعضًا، فتنتهي وتضمحل وتتلاشى. والشواهد على ذلك كثيرة في واقعنا اليوم، وأحداث التاريخ.
والأيديولوجيا نظام غير متطور لهذا لا يبني حضارة ولا فكرًا، بل يتراجع للخلف، فيما غيره من المجتمعات تتطور.
ولا يعرف هذا بشكل عملي إلا من كان غارقًا في الأيديولوجيا، ثم خرج منها، حينها سيعرف أن الحياة كتبت له من جديد، وما كان فيه من انغلاق بالنسبة له ثبات وموت بطيء. أما الدول إذا تأدلجت فخطرها أكبر، تقضي على المستقبل، والحاضر، وتبقى في منحدر حاد باتجاه الخلف.