«لطالما كنت شغوفةً منذ صغري بالإجابة عن الأسئلة الكبرى، كيف تؤثر الجغرافيا في حياة الإنسان؟ لماذا هناك دول غنية ودول فقيرة؟ من المسؤول عن ازدهار الأمم ونهوضها؟ وما العوامل التي تقود الشعوب نحو المجد والثراء؟ وعلى ذلك ومن خلال زورق، سأحاول أن أُبحر بكم بين صفحات الكتب، وأروقة المكتبات، لأُجيب عن الأسئلة الكبرى».
لطالما استمعت كثيراً لهذه المقدمة الملهمة بشغفٍ واهتمام، ولطالما كررتها نظراً لقلة حلقات بودكاست زورق؛ إلا أنه كان الأعظم نفعاً لي من بين كل ما قد استمعت إليه؛ وعلى غرار المقدمة.
لطالما كنت شغوفةً بعالم المال والأعمال، وكانت لدي الكثير من الأسئلة حول هذا العالم، لماذا يوجد أناس أغنياء وآخرون فقراء؟ ماذا يعني أن تكون غنياً؟ هل عوامل الغنى والثراء وراثية أم مكتسبة؟ هل التاجر تاجر لأن أجداده تجار أم أنها مهنة اكتسبها وتعلمها؟ لماذا لا تطبع الدولة النقود وتقضي على الفقر؟ ماذا يعني وجود العطالة على الرغم من نشوء الشركات والأعمال وازدهارها؟ وغيرها الكثير من الأسئلة، لقد تمنيت دراسة هذا العالم والإبحار فيه، إلا أن الظروف المناخية لم تكن مواتيةً لاتجاه فُلكي فأبحرت نحو ما اقتضت به الرياح، ثم شاء الله أن يحفظني في رحلتي هذه من الهلاك، فرسيت بها في منتصف الرحلة على إحدى الجزر وكانت جزيرة المال والأعمال، لقد أدركت مبكراً ما أُريد، ولما لم تتسنَ الفرصة بدأت بالبحث والاطلاع عن هذا العالم، أقرأ المقالات والأبحاث، وأتتبع مؤشرات الأسهم على الرغم من عدم فهمي لها، وأتابع النشرات الاقتصادية، وأشاهد الأفلام التي تحدثت عن أعظم الاستثمارات ورواد الأعمال، وكنت هكذا حتى وجدت المعرف الشخصي لأخي محمد الخميس، وأنا الآن أحاول جاهدةً التذكر كيف كان ذلك ولكن لا أتذكر، وأظن ذلك كان عن طريق أخينا الكريم عمر الجريسي؛ المهم أن البداية كانت قديمة بعض الشيء، فبدأت بمتابعة كل ما ينشره أخي محمد بشغف واهتمام حتى بت أوليه مكانةً على دراستي الجامعية، وقد كان أخي محمد يوصي بوصايا في عموم شؤون الحياة وأيضاً في خصوصياتها مثل المال والأعمال متى ما سنحت له الفرصة فأتوصى بما يقول، وقد كان يبدي آراءه فأقتنع بها، وقد كنت أتعجب ذلك من نفسي، فقد عهدتني كثيرة الجدال والاعتراض وصعبة الإقناع؛ ولما بدأ أخي محمد يشعر بتشعب الكثير من المواضيع ومدى أهميتها ونفعها، فقد آثر - رحمه الله - مشاركتها لنا عبر بودكاست زورق الذي كانت مقدمته تُلهمني جداً فضلاً عما يجيء فيه.
لقد كان أخي محمد يشعر بعظم نعمة العلم والإيمان والمعرفة التي وهبه الله إياها، فآثر كرماً منه أن يعلمنا مما علمه الله، لقد كان أخي محمد كريماً جداً في عطائه، لم يكن ليعطيك إجابة ما تسأله وحسب، وإنما يأتيك بتسلسلٍ كافٍ ووافٍ له، حتى أنه قد يجيب عن أسئلة لم تطرأ عليك بعد، ثم كان دمثاً في خلقه، ومسامحاً على ما يأتيه من الأذى، وصبوراً على طلب العلم ونشره؛ حاد الذكاء ومنفتح البصيرة؛ لقد كان مدرسة، وكأنما جُبرت لما قرأت تعزية أخينا الدكتور خالد اليحيا عندما واسى أختي لبنى وواسانا جميعاً لما قال: «خسرته الأرض، وفازت به السماء».
فقد كان أكثرنا شباباً وألقاً وحباً للحياة، إلا أن الحياة وكما قالت ابنة عمته إيمان الخميس «لم تتسع لرحابة وجوده»، ولا أنسى أبداً أن أخي محمد كان ذا ذوقٍ رفيعٍ في الأدب، وما أكثر ما كان يردد «كفى بالمرءِ نُبلاً أن تُعد معايبه». ليته يعلم أننا لم نجد عيباً واحداً فيه، إلا أن رحيله كان مفجعاً ومؤلماً جداً. ولا يستغرب حجم حزننا وتأثرنا بفقده وهو الفقيد حقاً، لأننا كما قال أخونا الكريم خالد الجريوي: «حسبنا أننا عرفنا فيه نقصنا، ورأينا فيه ما نكمل به، الطيبون يذهبون، ويبكيهم أشبه الناس بهم».
ثم انظر إلى ما آل إليه أمره من حسن الخاتمة وطيب الذكر والسيرة العطرة، لعمري ما هذا إلا توفيق من الله، لقد صدق مع الله فصدقه ولا أزكيه على الله، فأحسن الله عزاءنا فيه ولا فتننا بعده، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبله بقبولٍ حسن، ويثبته عند السؤال، ويقوّي حجته، و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
** **
- البندري بنت جبهان