تنازعت اتجاهات عديدة عبر تاريخ الفكر الجمالي تحاول الاستحواذ على ماهية الفن، منها التصور الأخلاقي للفن والذي ربط بين الجمال والخير، وظهر جلياً في الفكر اليوناني عند أفلاطون وفي نظرية التطهير الأرسطية وتردد صداه عالياً في العصر الحديث عند «ليوي تولستوي» كذلك تصور الفن باعتباره تعبيراً حدسياً عند شوبنهور ويندتوكروتشه ومنها التصور الشكلاني للفن الذي يرى أن الفن صورة خالصة ذات دلالة بذاتها يتم التعبير عنها وكذلك رؤية الفن بكونه رؤية حدسية لا تكمن في الجمال وإنما في الحقيقة، فالجمال هو أحد الأساليب التي تحدث الحقيقة في الفن، كذلك هناك اتجاهات في علم الجمال تؤكد على اصطناعية الفن، فعمل الفن بالضرورة اصطناعي، فالأشياء الجميلة مثل الزهور يمكن تقديرها ولكنها ليست أعمالاً فنية.
يقول نيكولاوس بفزنر 1940 «بدأتُ أدرك شيئاً فشيئاً أن تاريخ الفن يمكن تصوّرُه والنظر إليه من خلال جملة العلاقات بين الفنان والعالم المحيط به، لا من خلال تغيّرات الأساليب» مدشناً بذلك تاريخ مؤسسات الفن.
إن النظرية المؤسساتية للفن عند جورج ديکي تعد من أشهر المحاولات التي سعت إلى التعاطي مع إشکالية ماهية الفن في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن أبرز سمات الصياغة المتأخرة من هذه النظرية کونها تتأسس على الرؤية الثقافية للفن. وهذا معناه أن معاييرنا ومفاهيمنا للطبيعة التي ينبغي أن تکون عليها الأعمال الفنية، هي وليدة النسق القيمي لبيئة ما، في حقبة زمنية معينة. وهذا مؤداه إمکانية وجود تباينات حول طبيعة الفن في المجتمعات المختلفة. وأن معضلة الدائرية* من أبرز المعضلات التى جابهت هذه النظرية – يمکن التصدي لها عبر الإطار العام لنظرية ديکي الذي يشرع للاتفاقيات الثقافية. وهذه الرؤية الثقافية للفن هي المنهجية الصحيحة.
سبق أن طرح آرثر دانتو 1964م قبل جورج ديكي (بوجود سياق تاريخي فني يرعى العمل المقصود ويسهل إمكانيات التفسير والتأويل) ويجب أن يتقن المرء قدرًا كبيرًا من النظرية الفنية بالإضافة إلى قدر كبير من تاريخ الفن المعاصر.
حيث أضاف جورج ديكي في سنة 1974م النظرية المؤسسية للفن والتي مفادها أن العمل الفني شيء مصنوع أنشأه فنان ثم عرضه على جمهور من عالم الفن.
إن المؤسسات الفنية مثل المتاحف والمعارض، ووكلاء محددين يعملون داخلها، لديهم القدرة على إملاء الفن وما هو غير ذلك. لا توجد خاصية لكونه عملًا فنيًا بخلاف اعتباره كذلك من قبل الأعضاء المصرح لهم في عالم الفن. مثل الآراء البنائية الاجتماعية الأخرى.
(إن المنهج المؤسساتي هو النظر إلى العمل بوصفه فنًا، بسبب الموقع الذي يحتله داخل ممارسة ثقافية معينة) جورج ديكي 1984م.
الخاصية المشتركة بين جميع الأعمال الفنية هي وجودها ضمن السياق المؤسسي لـ»عالم الفن». يُعرَّف عالم الفن بأنه مؤسسة غير رسمية تجسد وتشتمل على مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ضمن «أنظمة عالم الفن»، كل منها يعزز ويدعم إنتاج وتقدير نوع معين من الفن.
وهناك خمس عناصر لابد من توفرها في أي ممارسة فنية حسب النظرية المؤسساتية للفن:
الفنان، العمل الفني، الجمهور، عالم الفن، منظومات عالم الفن.
تم تعديل النموذج في عام 1997، حسب نظرية جورج ديكي كما يلي:
- العمل الفني هو عمل فني من نوع تم إنشاؤه لتقديمه إلى جمهور عالم الفن.
- الفنان هو الشخص الذي يشارك بفهم في صنع عمل فني.
- الجمهور هو مجموعة من الأشخاص يكون أعضاؤها مستعدين إلى حد ما لفهم الشيء المعروض عليهم.
- عالم الفن هو مجموع كل أنظمة عالم الفن.
- نظام عالم الفن هو إطار لتقديم عمل فني من قبل فنان للجمهور في عالم الفن.
من الملاحظات على النظرية إنها لا توفر المعلومات الكافية حول لماذا تعتبر الأعمال الفنية أعمالاً ذات قيمة، فلا بد أن أعضاء عالم الغن لديهم أسباب لأن يكون هذا هو تقييمهم
لها، وإذا لم يكن لديهم أسباب لذلك، فما هي المصالح من وراء هذه التقييمات من وجهة نظرهم؟.
لا يهتمون فقط بما نسميه الفن، ولكنهم يريدون معرفة سبب تقديرنا لبعض الأشياء فوق غيرها. كل من النظريات ذات الشكل المهم والمثالي هي نظريات تقييمية جزئيًا، وفقًا لها، فإن تسمية شيء ما عملًا فنيًا يعني القول إنه جيد بمعنى ما، إما لأنه له شكل مهم أو لأنه إنه تعبير فني صادق عن عاطفة. ومع ذلك، لا تحاول النظرية المؤسساتية إعطاء إجابة على الأسئلة التقييمية حول الفن.
ومن مشكلة النظرية أنها لا تميز بين العمل الجيد والرديء, لأنها تدرج العمل السطحي والمبتذل تحت مسمى عمل فني وصاحبه منتمى لعالم الفن. وهي في النهاية تصنيف ليس أكثر، ولا تجد فارقاً في القيمة بين الأعمال الفنية كافة. وأيضاً تنقد النظرية بكونها (دورانية)* يعني أن لأي من أطراف الوسط الفني الحق في تسمية أي شيء عملاً فنياً.
ووجهة نظر ريتشارد فولهايم: حتى لو تقبلنا فكرة أن من حق أي فرد ينتمي إلى عالم الفن
أن يحول أي منتج حرفي إلى عمل فني، فينبغي أن تكون لديه من الأسباب التي تمكنه من
تعليل اختيار أشياء دون أخرى، وإذا لم يكن يمتلك أي منطق من وراء ما يفعل، إذاً ما الذي يدعونا إلى الاهتمام بالفن من الأصل؟ أما إذا كان يمتلك المنطق يكون هو ما يحدد ما إذا كان الشيء فناً أم لا.
وسيكون عندئذٍ تحليل ذلك المنطق أهم وأكثر واقعية بكثير من مجرد نظرية فارغة، ولو أمكننا أن نضع يدنا على تلك الأسباب، فستنعدم جدوى وجود النظرية ذاتها، إلا أن النظرية تذكرنا على الأقل بأن تحديد الصفة الفنية في الشيء أمر ثقافي، يعتمد على مؤسسات اجتماعية معينة, في أزمنة معينة, ولا يعتمد على ناموس أبدي.
المراجع :
- سوسيولوجيا الفن -ناتالي إينيك / المنظمة العربية للترجمة 2011
- مقال النظرية المؤسسية للفن وعالم الفن - مارتن إرفين 2018
- قاموس أكسفورد
- الفلسفة - إدوارد رسل ويلينج
- الفلسفة الأسس - نيغيل واربورتون
- بحث (الصياغة المتأخرة من النظرية المؤسساتية للفن عند جورج ديكي) أحمد عاطف محمد ـ مجلة بحوث ـ جامعة عين شمس 2021.
__
« * » مصطلح (معضلة الدائرة) و (الدورانية) ظهر من تأثير كتاب (دائرة الفن)
جورج ديكي ـ منشورات هافن، 1984م.
** **
- صالح الخليفة
slh.klfh@gmail.com