فيصل خالد الخديدي
دأبت فرقة مسرح الطائف منذ تأسيسها قبل أكثر من ثلاثين عاماً على الانفتاح على التجارب البصرية محلياً وعالمياً والسعي لتطوير التجربة وكسر الحواجز الوهمية بين أجناس الفنون وتحقيق الرؤية الشاملة في عروضهم المسرحية واهتمامهم الكبير بالجانب البصري وتحقيق المتعة البصرية المبنية على أسس فنية ولها علاقة وثيقة بالنص والحالة الوجدانية لشخصيات العمل, فالكاتب فهد رده الحارثي عادة ما يقدم في نصوصه عرضاً شبه جاهز للمخرج ولفريق العمل بل أنه يقدم جمل جمالية تستنطق الجمال البصري وتحوله إلى واقع ملموس على خشبة المسرح ويأتي بعد ذلك دور فريق العمل سواء بإخراج المبدع أحمد الأحمري أو عبدالعزيز عسيري وسامي الزهراني ومساعد الزهراني ليقرأوا نصوص فهد أو أي نص آخر تخرجه الفرقة فتقدمه برؤية مسرحية شاملة وبحضور بصري ملفت سواء كانوا مخرجين أو حتى ممثلين شباب أو أصحاب خبرة، فأجيال الفنانين بمسرح الطائف متنامية ومترابطة برباط الفن والاشتغال على تطوير التجربة فالجميع شريك بمسرح الطائف في إظهار جماليات العمل المسرحي بمختلف جوانبه من إضاءة وملابس وديكور وحركة الممثل وتشكيلات الجسد...
بدأت التجربة من خلال وعي أعضاء مسرح الطائف بقضية الكتلة والفراغ, وعمل تشكيلات حركية بجسد الممثل وذلك من خلال مسرحيات: البابور, أنا مسرور يا قلعة, الفنار,... وقد اعتمدت الرؤية التشكيلية في هذه الأعمال على التكتلات الجسدية للممثلين والتي عملت بتشكيلات متحركة تتوقف في لحظات متقطعة مسجلةً صورةً تشكيلية ما تكاد الذاكرة تبدأ في تسجيلها إلا وبدأت في الانطلاق بحركات مدروسة في خطوط تبدأ عشوائية وتنتهي بتشكيل آخر, ولقد كان الحضور اللوني مقصوراً على الملابس التي كانت تكتنزها حالة من الغرائبية التي لا ترتبط بمكان أو زمان محددين, وإنما غلب عليها الجانب الابتكاري والتوليفي في بساطة.
وبعد ذلك بدأت اللمحة الأولى في التطور من خلال تطور مفهوم السينوغراف واستخدام الإضاءة في عمل لوحات تشكيلية متحركة في مسرحية ما قبل المائة والتي تم استخدام بروجكتور الإضاءة المحمول وتحريكه بتقنية الكاميرا التلفزيونية, عبر اصطدام الإضاءة بشكل مباشر بجسد الممثل واختراقها له مجسدة حالة من حالات النحت على جسد الممثل والتركيز على التباين اللوني من خلال الإضاءة الزرقاء والحمراء لبعث بعض الدلالات المتباينة, كما كانت الحالة الموميائية حاضرة من خلال ملابس الممثلين التي امتازت بالبساطة والتعتيق في آن واحد, أما فقر الديكور فحضر من خلال اللوحات اللونية المجردة على خامة الخيش التي أضافت دلالة زمنية للحقبة التي دار موضوع العمل بها.
وفي مسرحيات لعبة كراسي والمحتكر وكنا صديقين تطور المفهوم تشكيلياً عبر استخدام الإضاءة وجسد الممثل واللعب على خيال الظل الأمامي الملون وقيام الإضاءة بتحريك الممثل على خلفية بيضاء مما جسد لوحات تشكيلية تمازجت فيها الإضاءة مع جسد الممثل مع خيال الظل, ومن عرض لآخر زاد الوعي بالصورة التشكيلية فظهرت بشكل أعمق من خلال التكبير والتصغير, واستخدام الإضاءة الملونة على جانبي المسرح لإضفاء حالة من الخيال النحتي على جسد الممثلين بمصادر إضائية مختلفة, كما كانت الأقنعة الضوئية التي عملت بالكشافات اليدوية إضافة تشكيلية جديدة ذات قيمة فنية عالية, والتكوينات والتشكيلات السريالية التي ظهرت من خلال استخدام القماش, سمة لتشكيلات بمسرح الطائف تطورت في أكثر من عرض, ومن المفردات التشكيلية التي برزت في أعمال مسرح الطائف والتي ظهرت في استخدام الشموع لتكوين اللون والظل واللعب معها في صورة بصرية تشكيلية, والاستفادة من الأضواء الخافتة والمتقطعة للشموع واستخدامها بشكل مباشر أو من خلف قطع قماشية ملونة أو بيضاء معطية بإضاءتها الخافتة حاله تشكيلية نابضة بالحياة والحركة البسيطة من وسط الإظلام التام, ولعل التكوينات التي عملت في العديد من المشاهد بمسرحية رحلة ما قبل المائة ومشهدية من عرض المحتكر أقرب ما تذكرنا بلوحة (آكلوا البطاطس), والتي تظهر بها بعض ملامح شخوص اللوحة في إضاءة السراج أو الشمعة الخافتة, ولعل الربط هذا يأتي من مصدر الإضاءة بين المشاهد والعمل التشكيلي والحالة الإنسانية بهما, كما حضر شيء من التناص البصري بين مشهديات من عمل الجثة صفر وأعمال الفنان رينيه مارجريت....
ولم تتوقف تجربة مسرح الطائف التشكيلية المسرحية على استخدام وسائط محدودة وصغيرة بل تجاوز ذلك إلى استخدام الحديد وتطويعه في تكوينات معمارية ذات بنائية تشكيلية في علاقة تبادلية بين الشكل وظلاله, تلك الظلال التي تصغر وتحجم تارة, وتنمو وتكبر وتلتهم الشكل تارة أخرى, وهذا تجسد في عرض سفر الهوامش, هذا العرض الذي تعايشت فيه الأجساد الحية للممثلين مع الصلابة والجمود في المكعبات الحديدية التي مثلت حدود الهوامش, فامتزجت حياة الجسد مع جمود الحديد وسط تحريض من الإضاءة الملونة التي أضاعت حدود الحياة مع الجمود فلم تعد المكعبات الحديدية ذات جمود وتصلب بل أصبحت تلك اللينة الهشة التي تشي عن قدرة عالية في إذابتها وتطويعها في تشكيلات حية, من خلال امتزاج جسد وإحساس الممثل معها وهو الذي جعلها تسلم له وتتخلى عن صلابتها.
أما فن البورتريه فقد كان حاضراً بشكل ملفت وبتقنية وحرفية فنية عالية من خلال عدة أعمال ومن أهمها عمل المونودراما (يوشك أن ينفجر, والمحطة لا تغادر, والجثة صفر, كافي) والذي أظهر الممثل براعة من خلال شد قطعة قماش بيضاء على وجهه مبرزاً عدد من الملامح والتشكيلات التي تتباين بين تعابير المعاناة والألم والضعف والقوة والعنفوان, كما تنوعت التشكيلات في هذه العروض بين مجسمات نحتية وصور بصرية سريالية ذاب فيها جسد الممثل كماء يقطر في أكثر من مشهد في العروض...
ومع كثرة الأعمال وطول الممارسة والنحت في مفاصل التجربة المسرحية لمسرح الطائف تنامت التجربة اللونية والشكلية وانتقل المشهد في عروضهم باحترافية من تلوين الممثل والديكور بالإضاءات الملونة إلى تلوين الظلال والاشتغال على ذلك باحترافية, كما حضر الحرف العربي والكتابة به في العروض بشكل مميز من البدايات من خلال عرض بازار وتنامى وتطور هذا الحضور وانتقل إلى مستويات أكثر نضجاً واختزالاً في عرض مسرحية كافي, وحضرت في تجارب مسرح الطائف الاستفادة من كامل إمكانات جسد الممثل وتشكيل امتدادات جمالية تنامى النضج في التعامل معها من عرض لآخر وبشكل جماعي أو حتى فردي مستفيدين من جميع الإمكانات الضوئية واللونية لإظهار تشكيلات مميزة ومتناسقة بأطراف الفنان الممثل.
والتشكيلات الحركية رسمت عدة لوحات جمالية في الكثير من العروض لمسرح الطائف سواء بالممثلين أم بالإضاءة وأزيائهم أو حتى ببعض قطع الأوراق المنتثرة في فضاء المسرح والأشرطة الطولية والعرضية والاستفادة من جميع الأدوات الممكنة توظيفها على خشبة المسرح وفضاءه, والتي تضيف تكوينات وبعداً جمالياً ميز عروض مسرح الطائف وأعطاها هوية لما تقدمه على خشبة المسرح من جمل تشكيلية غنية بصرياً عميقة دلالياً مشبعة بالإحساس والجدية في الطرح.