عبد العزيز الصقعبي
أريد أن أنام، وما الذي يمنعك؟ بكل تأكيد هذا السؤال سيأتي مباشرة بعد إعلان رغبتي في النوم، وهو أمر خاص بي، ولا علاقة لأحد به. آوي إلى الفراش، سرير صغير يقبع في ركن غرفة أيضاً صغيرة. أنا محتاج إلى أن آخذ قسطاً وافراً من النوم، لأستيقظ غداً باكراً. الساعة الآن العاشرة مساء، ربما النوم في هذا الوقت مستغرب، بقي على منتصف الليل ساعتان، وأنا بطبيعتي لا أحب النوم باكراً، حتى أحياناً أرى أن النوم مستغرب قبل أن تدق الساعة الثانية عشرة إيذانا بدخول يوم جديد. أشعر أنني أملك مزيداً من الوقت لاستمتع بالسهر، ولكن هذا المساء مختلف تماماً، لا بد أن أخلد إلى النوم باكراً، محطماً كل الساعات وأولها الساعة البيولوجية التي جعلتني أنام متأخراً وأستيقظ متأخراً.
الغرفة مظلمة تماماً، وباردة قليلاً، وأنا متدثر بغطاء سميك، على فراش بسيط، مريح لجسد مثل جسدي يقبل بالبسيط، المخدة قاسية، الزمن منحها هذه القسوة، ولكن لا تزال تؤدي وظيفتها باستقبال رؤوس ترغب بالنوم، ولكن رأسي له رأي آخر، ويحتاج لإقناع. هذه الليلة الأمر مختلف، يجب أن أنام باكراً لأستيقظ باكراً، عكس جميع الأيام السابقة.
لن أفكر، لن أتخيل، فقط أفكر بالبياض، حتى يتكرم سلطان النوم ويعلن أوامره بالهيمنة على جسدي، فلا أشعر بشيء، أعيش سباتاً أرغبه الآن كثيراً، لا أقدر أن أمنع التفكير من أن يجتاح رأسي ولاسيما أنني أقرر شيئاً مختلفاً، والغد بكل تأكيد مختلف، أريد أن أنام، كأنني مسرح تطفأ أنواره تماماً قبل بدء العرض. أنا أريد هذه اللحظة التي تطفئ هذه الأنوار، ويعم الصمت على الجميع قبل أن يفتح الستار، أو تضاء خشبة المسرح. هي ربما لحظات، ولكن بالنسبة لي قرابة سبع ساعات، ربما أقل بساعة أو أكثر بساعة. عموماً الدقيقة بالمسرح تقابلها ساعة، فماذا لو قرر المخرج لعرض مسرحي أن يبقي الإظلام عشر دقائق، لنقل خمس دقائق، هل سيبقى الجمهور صامتاً، هل سيقترن الهدوء بالظلام؟ لا أعتقد، سيطلق من وسط قاعة المسرح صوت مكبوت، «كحة»، ربما يصفر أحدهم، ربما يبادر متفرج آخر بالتصفيق، تصفيقة واحدة، سيبدأ اللغط، ستعلو الأصوات بالتدريج، ثم يعم الصخب قاعة المسرح، هذا ما يحدث في رأسي الآن، تصطخب الأفكار داخل رأسي. في هذا الظلام الرهيب يبدو لي أنني لن أستطيع أن أمنع الأفكار أن تسيطر على رأسي، ولكن أقدر أن أتحكم بها، وليس هنالك محفز يدفعني إلى أن أنام. الظلام والهدوء والبرودة القليلة لا تساعدني مطلقاً على النوم مباشرة، فأنا أحياناً أنام حين يداهمني النوم، في وقت غير هذا الوقت، ولا يوجد ظلام وثمة أصوات أسمعها، أبسطها صوت مذياع أو جهاز تلفزيون أو أحياناً داخل قاعة سينما، وهذا حقيقة ما هو مزعج. تخيل أن تذهب لقاعة سينما لمشاهدة فيلم أنت حريص جداً على مشاهدته، في وقت أنت اخترته، تجلس على المقعد وتتابع أحداث الفيلم، تتابع وتتسلى بشرب الماء. بالمناسبة إذا كنت مثلي فأنت تحافظ على صحتك فتبتعد عن تناول المشروبات الغازية والأطعمة غير الصحية، فتكتفي بشرب الماء. الفيلم لم يبدأ بعد، تتابع الإعلانات للأفلام الجديدة، وبقية الإعلانات، ثم تستعد للتركيز ومتابعة الفيلم، وفي الوقت ذاته يبدأ رأسك بالثقل قليلاً، لتتمكن منك غفوة قصيرة أو طويلة أو متقطعة، فلا تتابع أحداث الفيلم، وتغادر القاعة مع الجميع، وأنت تحمل رأساً مملوءًا بالنوم، ولكن ذلك النوم يتبخر بمجرد مغادرتك قاعة السينما، هنا لا مجال لمتابعة فيلم، وهاتفي المحمول تعمدت أن أغلقه وأضعه في غرفة أخرى حتى لا تزعجني الاتصالات، بالذات تلك الرسائل السخيفة المكررة. ربما أعجبك مقطع، وأردت أن تشرك الآرين ليستمتعوا بذلك المقطع مثلك، ولكن هل فعلاً سيستمتع كل من شاهد ذلك المقطع؟ مثلاً سقوط الأشخاص وهم يمشون، هل هذا مضحك؟ أو نوم طفل وهو يتناول الطعام، هل هذا مضحك؟ أنا لا أستمتع بتلك المقاطع، ولكن هل هذا من مقولة لولا تعدد الأذواق لبارت السلع؟ الناس يختلفون، الميول والرغبات وأيضاً ماذا يضحكهم، هل الكوميديا السوداء مضحكة؟ وماذا عن كوميديا الموقف؟ يا إلهي، ماذا أصابني، ها أنا أفكر وأناقش مجموعة من الأفكار من المفترض أن تكون بعيدة عن رأسي الذي تعب من تلك المخدة القاسية. لا بد أن أبحث عن طريقة لأنام دون أن أهدر مزيداً من الوقت. سأبدأ بالعد، وسأعد برتابة، سأفتح عيني وأتخيل الأرقام في هذا السواد المحيط بي، سأكرر ذكر الرقم مرتين، مثلا واحد واحد، اثنان اثنان، كأنني أحفظ درساً أو جدول الضرب، سأصل عند الرقم عشرين عشرين، رقم مميز، ربما هو العام المنصرم (ألفين وعشرين)، وللاختصار أو أمر آخر قد لا أعرفه بدأ الناس بقول عشرين عشرين، انتهى هذا العام المختلف، يبدو لي أن التفكير بهذا العام سيدفعني إلى التفكير بالجائحة، والحجر. طيلة أيام الحجر وليس العزلة لم أفكر مطلقاً بالنوم باكراً مثل هذه الليلة، تشابهت الأوقات والأيام، لا صلاة جمعة، ولا صلاة مسجد، ولا زيارات، ولا مغادرة منزل، ولا سفر، فعلاً لا سفر، فعلاً التفكير بذلك الوضع يسبب الأرق، والخوف من الوباء يسبب الوهم، ومن ثم عدم النوم، مجرد شعور بحرقان داخل الحلق، تجتمع جميع الحواس في الجسد وجميع مراكز التحسس للتأكد هل هذا أحد أعراض كرونا، لا توجد حرارة، والتنفس طبيعي، فعلاً التنفس، لماذا لا أفكر بالتنفس وأنا مستلقٍ على الفراش والاسترخاء، ربما هذا الاسترخاء يبعد عني التفكير، وأستطيع بعد ذلك أن أنام، فكرة جيدة، ولكن لا أستطيع ألا أفكر، لا توجد موسيقى هادئة، لا يوجد أي جهاز بقربي، ربما لو كان هاتفي المحمول بقربي لبحثت عن موسيقى خاصة بالاسترخاء، وربما نمت، ولكن لا بأس، ليكن الخيال مساعداً للنوم، لنفكر بقطعان الخراف، كثير منكم في يوم ما فكر بتلك القطعان من الخراف البيضاء الهادئة في ذلك الحقل الواسع الأخضر. أنا ابن المدينة، لا أعرف الحقول الخضراء، وأين الحقول الخضراء في تلك الصحاري الجرداء، هل أفكر بسيارات صغيرة تجوب أزقة المدينة وأقوم بعدها، لا تصلح، لا تصلح مطلقاً، لنعد للخراف، لأركز فقط على الخراف الصغيرة الجميلة البيضاء، وأقوم بعدها، لأتخل سياجاً تقفز من فوقه تلك الخراف، وأقوم بعدها. بالطبع هذا يريحني من التفكير بشيء آخر، بالذات إذا وضعت في تصوري أن الخراف متشابهة، متشابهة جداً، وهذا يساعد على رتابة المشهد، أتخيل أيضاً موسيقى رتيبة، الرتابة قاتلة، تنفر، فعلاً عندما أستمع لمحاضرة ثقافية أو تثقيفية، تقدم بصوت هادئ ورتيب، تنتابني الرغبة بالنوم.
أعود للخراف، وأبدأ بالعد، أتخيلها تقفز فوق السياج، كأنها تقفز فوق رأسي. للأسف علاقتي بالخراف ليست جيدة، ربما في مرحلة الطفولة، وعندما كنت أقطن بيتاً شعبياً، وسط حارة أزقتها ترابية، كانت الماعز والخراف تجوب الشوارع، وأيضاً الكلاب والقطط، ولكن الأمر تغير، فحظائر الماشية خارج المدينة، وتأتينا الخراف على شكل لحوم للأكل، فلا مجال للتخيل، ربما لو عشت قبل أكثر من قرن لأصبح الأمر طبيعياً. لن أنام، لن أنام مطلقاً إذا اعتمدت على الخراف، ولو كان خيالي يقدر على تصورها، وهي ناعمة بيضاء، ولكن لماذا لا نفكر بالقطط، أيضاً ناعمة، وأنا لا أقصد قطط الشوارع، ولكن تلك الحيوانات الأليفة، أنا لا أحب الحيوانات، أحب النباتات، والطبيعة، فعلاً لماذا لا أتخيل شاطئاً هادئاً، أفكر أنني مسترخٍ وأستمع لصوت الأمواج الرتيب، مذهل، سبق أن ذهبت إلى مدينة تطل على بحر، وجلست لمدة ساعات على الشاطئ، واستمتعت بالمنظر، بالذات في لحظة غروب الشمس أو شروقها، ولكن الغروب ربما أفضل، بالذات إذا كانت الشمس من خلف البحر، لكم أن تتخيلوا امتزاج حمرتها بزرقة ذلك البحر، وتدثرهما بالسواد، ربما ذلك المنظر لن يدفعني للنوم بل يثير مشاعري، ربما أكتب قصيدة، ولست بشاعر، صوت الماء، أمواج البحر، الشلالات، سقوط المطر، أصوات رتيبة وجميلة، صوت سقوط المطر، مريح، كنت أتمنى لو أمطرت هذا المساء، لاستمعت إلى صوت سقوط المطر على الأبنية، وبالذات على نوافذ هذه الغرفة، أو على السقف من الخارج، المهم أستمع لصوت الماء الرتيب، ولكن ليس مثل صوت سقوط قطرات الماء من صنبور، فذلك صوت رتيب مزعج، لا أحد يستطيع النوم وهو يستمع لصوت سقوط قطرات الماء على إناء أو الأرض، بشكل رتيب، ربما هذه وسيلة تعذيب، تجعل النوم يهرب بعيداً، كما هي حالي الآن. لقد استغرقت وقتاً طويلاً وأنا أفكر وأكتب، دون أن أشعر أن لدي رغبة بالنوم، حتماً الساعة جاوزت منتصف الليل، يجب أن أستيقظ باكراً، هل أكسر القاعدة، وأواصل السهر، وحين يسألني البعض عن سبب عدم خلودي للنوم باكراً، واستيقاظي باكراً، بمعنى عدم أخذ قسط وافر من النوم، أقول لهم: لم أقدر أن أنام. هل هذا عذر، ولكن ماذا لو داهمني النوم في الوقت الذي يجب أن أكون فيه مستيقظاً؟ هل أبحث عن عذر وأقول أصابني الأرق مساء أمس ولم أستطع أن أنام، وأبحث عن وسائل لأكون مستيقظاً لوقت طويل، ثم أرمي بجسدي على أي سرير وفي أي مكان لأنام، حين يقررالنوم أن يأتي ويصر على ذلك، وبالطبع في الوقت الذي لا أريده، أنا لا أحب العقاقير، وبالذات الحبوب المنوِّمة، وكل ما يتسبب بالإدمان. أنا رجل أراد أن ينام باكراً، ليستيقظ في وقت مبكر، وفشل.