حوار - محمد صالح الهلال:
الفنان منذ طفولته يرى الأشياء والصور ويواجه المواقف فتترك انطباعًا في نفسه. يخزنها في ذاكرته؛ ليخرجها لاحقًا أفكارًا وصورًا ورؤى. قد تكون في بداية التجربة غير مكتملة، باهتة الملامح، عاجزة عن أن تعلن نفسها، ثم تصقلها التجارب ويثريها الاطلاع، وتعمقها الثقافة؛ فتخرج مكتملة ناضجة.
الفنان خميس النعيمي ما اكتفى بالريشة كأداة للتعبير، بل أسندها بالقلم؛ فقد كان متابعًا للحركة الفنية التشكيلية مستفيدًا من اطلاعه على المدارس الفنية والنقدية الحديثة. أحب الفن منذ صغره، ودرس الإعلام بجامعة الملك سعود. لا يحب الحديث حول لوحاته كثيراً تاركاً ذلك للمتلقي، مؤمناً بأن أي عمل إبداعي عندما يخرج من تحت يد الفنان يكون تحت رؤية المتلقي؛ فهو حر في تحليل العمل بحسب وعيه وثقافته.
حوارنا اليوم معه حول مشواره الفني والثقافي.
* في أي مرحلة عمرية بدأت الرسم؟ وهل هناك قصة لتلك البداية؟ وكيف تصف مراحلك العمرية مع فن الرسم؟ أي أحاسيسك الإنسانية ولغتك الفنية، وانعكاس ذلك على حياتك الإنسانية وعلاقاتك مع الناس.. هل أحدث الفن فيك تغيرًا إنسانيًّا مهمًّا؟
- عندما أعود بالذاكرة للمرحلة العمرية الأولى يعود بي الزمن إلى المرحلة الدراسية المتوسطة زمن لوحات الصور الجميلة التي كانت في مكتبة والدي، ومجلات مثل العربي الاثنين والهلال والأسبوع، وغيرها من المطبوعات التي تصنع نطاقًا لفتى يتعرف على الحياة من خلال هذه الصور التي تملك الخيال، وتحيل إلى المعرفة القريبة، والتعامل مع التصورات عن ذلك العالم البعيد. وأتذكر أن جدران المنزل قد امتلأت بالخطوط والرسومات والخربشات إن صح التعبير. في هذه المرحلة يكون التوجيه من قِبل
المدرسين هو الحافز الحقيقي. وقد كُتب لي أن يكون مدرس الرسم هو الصديق الواثق في موهبتي من حيث الاحتواء والتشجيع. وهي مرحلة اعتمدت عليها كثيرًا بعد ذلك في تطوير التقنيات الفنية، وتأسيس مفهوم الإبداع الفني.
عندما أصف مراحلي العمرية فهي خليط من وجوه ولوحات، كان أنضجها في المرحلة الجامعية بالعاصمة الرياض في نهاية السبعينيات الميلادية؛ إذ كان الزخم الفني في أوجه. كان شغلنا متابعة الحركة التشكيلية وسيلانها المتدفق من جامعة سعود إلى المعهد النموذجي بمعارضه التاريخية، والفنادق؛ إذ كان الإنتركونتيننتال يتزعم هذه الإبداعات والصالة الثقافية لرعاية الشباب، وكانت الرياض تزخر بتدفق ثقافي ضخم، وزخم فني، ولم تخلُ حتى من رسامي الشوارع البورتريهات، ومحال الفنون الجميلة. وكانت كلية الآداب في تلك المرحلة قد طورت مناهج البحث الأثري الميداني بقيادة الأستاذ د. عبد الرحمن الأنصاري، وبدأت رحلاته في اكتشاف الفاو تؤتي ثمارها؛ فكانت مشاهد لوحات الإبل وتهجينها والتماثيل الجميلة للمرحلة الهيلينية وكتابات المسند لنقوش الجبال. كل هذا كان يعبق برؤوسنا، ويغير من شكل الواقع الساذج إلى تمدد في تاريخ الجزيرة، وأصبحنا نعرف مَن نحن، وتشكلت شخصيات جديدة لنا، تثق بكيانها، مما أحدث تغيرًا في مجرى شخصيتي الفنية.
* كيف تستطيع أدوات التعبير التشكيلي أن يكون لها فعاليتها؟ وما هي مهمة الفنان بالمجتمع، ومسؤولياته إزاءه، والدور الذي عليه أن يقوم به؟
- التزاوج بين الفنون سحره متلازمة الجمال، وهي المسيطرة على الأدوات. لقد نضج الفن الإيهامي بعد حركة الداديين؛ إذ أظهر الاعتناء باللاشعور، وهو المنحنى الذي يسير عليه فن ما بعد الحداثة، ويبلغ أوجه في الستينيات والسبعينيات.
وتعرفنا لوحة «هذا ليس غليون» للفنان رينيه ماغريت التي أفرد لها ميشيل فوكو نقدًا متقدمًا في تغير المفاهيم للصورة؛ إذ إن الفنان وضع المتلقي في حيرة من أمره حول أين الغليون. رسمة غليون كتب تحتها هذا ليس غليون (رسمها رينيه في 1926). ويدخل فوكو القارئ في لعبة هل الغليون حقيقي أم إنه في اللوحة أم في كتابة العبارة هذا ليس بغليون? وليس أغرب من ذلك أن الفنان جوزيف كوسوث عرض ثلاثة كراسي، أحدها كرسي مادي ينطوي، والآخر صورة كرسي معلقة على الجدار، أما الثالثة فهي عبارة كُتب عليها ما هو الكرسي بالاستناد إلى تعريف القاموس وأدهش متلقيه. كلا الفنانين يحيلنا إلى أننا محكومون بأوهام هشة تحيط بنا، وتدعي أنها تملك المعنى. وهنا نرى أن الفنان تجاوز الأدوات الحسية من فرش وألوان وتقنيات فنية إلى تقديم الصور الذهنية والمفارقة والنقد كأدوات، أي تتبع نقد اللوحة، وهو منشئ للعمل الفني. وهنا ظهرت أهمية الناقد لإظهار العمل الفني؛ فنحن مع الفن الإيهامي دخلنا عصر الناقد الحاضر في العمل، فأندي وارهول، وديشامب، وفنانو البوب بعد ذلك اعتمدت أدواتهم على النقد والتفسير الفكري للعمل الفني.
وحول من يرى أن هناك واجبًا للفنان مكلفًا به نحو مجتمعه هنا نضع نقطة تصور بسيطة إذا كان الفنان لا يرضى بالوصاية من أحد على فنه، ويناضل من أجل هذه الحرية، فكيف يقبل بتحقيق وصاية على المجتمع بأن يقول ما هو جيد وما هو سيئ، وكيف نتعامل مع الفن في المجتمع؟! وهذا يرد إلى أن الفن يتحدر من مفاهيم متضادة كما يقول هيدغر، فإن الاشتغال الفني يقسم العمل إلى فرعين: أولاً النص، وهو ما يذهب مع المنطق. وثانيًا العمل الفني الذي يجنح إلى مفهوم علم الجمال الاستطيقا. فعندما نهيئ نصًّا للمتلقي فإننا نخاطب عقله بمنطقية علمية، بينما الفن في أساسه تلقٍّ جمالي حسي يحاكي الأحاسيس والإبهار والشغف بالحياة. فأين تكمن رسالة الفنان؟ في توجيه وعي المجتمع؛ فهو ليس بواعظ بل محب للجمال. لكن يظل النص ملك القارئ أو المتلقي بعد خروجه من يد الفنان. وتبرز هنا رؤية المتلقي الخاصة بتناوله العمل بالتأويل، ويكون تفاعل العلاقة الصريحة بين الفنان والمجتمع.
* الفن التشكيلي والمعمار كانا لصيقَين في تراثنا الإسلامي؛ والشواهد على ذلك كثيرة، منها مساجدنا وما حوت من زخارف إسلامية، أصبح الغرب يحاكيها. لماذا هذا التباعد بينهما الآن؟ وهل ترى ذلك مفيدًا للحركة الفنية والمعمارية؟ وما مدى انعكاس ذلك على المجتمع من الناحية الفنية والذوقية؟
- العلاقة بين العمارة والفنون علاقة وطيدة، تأسست في جميع الحضارات. فأشكال المعابد في الشرق تأخذ كثيرًا من الاحتراف الفني. ورسم المناظر والموسيقى والرقص أدوات تقرب الجمال إلى قلوب زوارها، وكذا الكنائس في ترتيبها الدقيق وتعشيق الزجاج والكورال والأورغن. أيضًا إذا نظرت إلى المساجد في العصور السابقة كالمسجد الأموي برسومات النباتات، وزخارف القباب الجميلة في الحرم المدني، والساحات الباروكية والمذهبات والخطوط الجميلة على جدران الحرم، كلها تشع بجمال سالب للعقل. أيضًا مساجد العراق تزخر بالنقوش النباتية والألوان الفيروزية الجميلة، وكذلك مصر والمغرب وإيران؛ لأن الأجواء الروحية في الترنم بالتراتيل والموشحات مع جمال المكان كلها تقول إن الجمال
هو مكمن سر القرب والتودد للزوار الروحيين. لماذا لم يستمر هذا التزاوج الضخم؟ أظن الآن لم تعد النقوش المباشرة والمبالغة في الزخرف هي الأساس في العمارة الإسلامية؛ فهي ذهبت إلى الأشكال البسيطة والنزوع إلى التجريد الصريح، وأصبح شكل المكان يغطى بواجهة جميلة، تتناسب مع ذائقة وشعيرة عدم المبالغة، والميل إلى البساطة (وحف الميزانيات الضخمة). والكثرة في الإنتاج هي توجه معماري حتى في أعتق الدول. وينسحب على دور عبادة كثير في العالم. لكن علاقة العمارة بالفنون علاقة راقية وقديمة.
* لو طُلب منك تنفيذ جدارية بالمنطقة التي تعيش فيها ما هي فكرة تلك الجدارية؟ وفي أي مكان تقترحها؟ وهل تفكر في أحد يشاركك العمل؟ وهذا الشخص هل تفضله أن يكون فناناً تشكيلياً أم أديباً يشاركك الأفكار؟
أتمنى أن أشارك في جدارية تبهر وتبرز معالم مدننا. وفي الحقيقة أنا لم أخض مثل هذه التجربة، وسأكون مسرورًا بالدخول فيها.
* في كثير من لوحاتك تعود إلى الماضي في تصويرك للإنسان أو البيئة، هل ذلك عائد إلى الحنين، أم هي صور مخزنة بالذاكرة تستدعيها؟
- العودة إلى الماضي في لوحاتي لا تؤطَّر بماضوية أو نستولوجيا حنينية في الماضي الذي في أبهى حلته عوز شديد وكفاح من أجل لقمة العيش، لكن نحن نرسم خطوط تلاقٍ بين البيئة المحلية التي نعرفها بأنها زمن ما قبل الخطيئة، أي لم تتنفس المدن فيها وبإشكالياتها ومفارقاتها وأدواتها الجبارة والخانقة من شركات وأعمال روتينية وبنوك اغترابات في الشارع تباعد في المسافات، وتكلف أشكال الحياة؛ فالعودة والاشتياق للزمن الأولي هو شيء من التواصل وترتيب الحاضر باستشعار الماضي والأماكن. نحن لا نستطيع الخضوع لقوانين الماضي، والمكتسبات الحاضرة خير دليل.
* إلى ماذا تفتقد الفنون التشكيلية بالمملكة؟
- بلا شك إن المراكز الفنية والمعاهد هي النواة الحقيقية للإنتاج والعناية بالفنان. أيضًا المتاحف الفنية ودور العرض والصالات، والمتعهدون، والمزادات، والحماية الفكرية للإنتاج الفني، والزيارات المنظمة للفنانين العالميين لإعطاء دورات قصيرة كما يحصل في الدول من حولنا، والمراسم الحرة، والجمعيات التشكيلية. نحن لسنا مبتدئين في الفنون، والعلاقات قديمة. وكلية التربية والمعهد الفني وصالات الجمعيات والرعاية السابقة من الدولة في الاقتناء كل ذلك محط اعتراف من الفنانين، لكن الآن نتحدث عن نهج مؤسسي، وليس اجتهادات متفرقة تصعد وتزهر، ثم تخبو. أنا متأكد من أن القادم يحمل الكثير من العطاء، والوعود بدأت تزهر.
* ما نشاهده من تكرار لأعمال فنية وتشابه بالأفكار هل يعود لتباعد الفنانين عن بعض أم إلى ثقافة الفنان نفسه؟ وكيف يتطور الفنان في غياب الناقد الفني المختص؟
- طغيان بعض المدارس يؤثر بتواتر لدى الفنانين في بداية المشوار الإبداعي، ولكن الأسوأ أن ننظر إلى هذه المدارس وكأنها هي الصرح والنموذج التام، بمعنى النظر للخلف، والسير إلى الأمام. أنا مؤمن بأن الدخول في التجربة الحسية للفنان هو أيقونة عطائه، والتمدد بهذه التجارب إلى الضفة الأخرى وتعميق التجربة بالاستمرار في العطاء سوف ينتج لدينا مدارس محلية وصيغًا متعدد، وستقبل هذه التجارب الدخول في تفاعل مع المفاهيم العالمية؛ ليتعرف عليها العالم.
* إلى أي مدى استفاد الفن السعودي من التجارب الفنية بالعالم العربي؟ وهل نحن على علم بأهم تلك التجارب؟
- السؤال مهم. من خلال تجاربي ولقائي مع الفنانين السعوديين هم يخوضون بدراية علاقات تفاعل عالمية. لدينا من أخذ دورات في سويسرا، وتأهل، وتم اقتناء أعماله، وهناك من تم اقتناء أعماله في المتاحف الروسية. وغني عن التعريف أن الفنان عبدالستار الموسى لديه 7 لوحات تم اقتناؤها.
لدينا من شاركوا في معارض في أوروبا، مثل معارض النمسا العالمية بلوحات محلية. هناك من دخل مزادات باريس، وتم اقتناء أعماله. نحن نخطو في المسار العالمي أسرع من المحيط العربي، وهذا يدعو للأسف؛ فهناك تجارب في المغرب تستحق المتابعة الحثيثة، ونقاد على مستوى رائع، ومهرجانات أولى بالمشاركة فيها. ولا تخلو مصر صانعة الحضارة من التجارب الشخصية والاتيليات، ووجدت مشاركات لفنانين سعوديين وتواصلاً جميلاً. علينا أن نعترف لهؤلاء المبدعين بالريادة؛ لأنها كلها مجهودات فردية من قبلهم، وعلى نفقتهم الخاصة.
الخبر المفرح هو إنشاء معاهد ومراكز للفنون، وهو بصراحة يكمل المسيرة الفنية وردة الفعل بأنه حدث جليل وتاريخي للفنون الجميلة. وقد أشرت خلال هذه المقابلة إلى أهميتها، وأهمية تزاوج التجارب، واستضافة الفنانين العالميين والعرب طبعاً، ومَن سبقنا بالتجارب.