أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن : يظن البعض أنَّ ظاهريتي، وحبي للإمام ابن حزم، واجتهادي في بعض المسائل يجعلني متحاملاً على الإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية وأئمة الدعوة التي جعلها واقعاً بإذن الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب بالله ثم بنصرة آل سعود رحم الله تعالى موتى الجميع وبارك في الحي.. وكان فيما قيل لي: «ليس عند ابن حزم من فضل وعلم ودين إلا وعندهم أكثر منه» يعني من أسلفتهم؛ وهذه دعوى عريضة لم تصدر عن استقصاء علمي وفهم؛ فهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى الذي شغل أكثر جهده في مناقشة الفلاسفة، وأهل الكلام عنده فصول لم أفهمها إلا بعد جهد ومعاودة قراءة ووقت طويل؛ بل رأيته رحمه الله أطال الرد على أهل الحلول والاتحاد، ولم يخطر بباله الباعث لهم على ذلك الكفر، وهو أنهم أحالوا إيجاداً من عدم، فجعلوا الكون جزءاً من ربهم، ومظهراً منه، ويتحد به، ثم تتجدَّد المظهرية والاتحاد إلى الأبد.. ولو فطن رحمه الله تعالى لهذا الباعث لتفرغ لدحض شبهة الإيجاد من عدم.. والإمام ابن تيمية يقول عن الإمام ابن حزم رحمهما الله تعالى: «وكذلك أبو محمد ابن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك بخلاف انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات؛ فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث؛ لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظِّم السلف وأئمة الحديث، ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها.. ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات .. وإنْ كان أبو محمد ابن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره.. لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى؛ وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له.. كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب، مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر.. وإنْ كان له من الإيمان والدين والعلوم الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ووجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره؛ فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح.. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء».. انظر كتاب (نقض المنطق) ص17-18/ ط م السنة المحمدية.
قال أبوعبدالرحمن: هذا كلام أهل العدل والإنصاف، وما انتقدته على الإمام ابن حزم كثير جداً، وليس ذلك لفساد أصوله في الأخذ بالظاهر؛ بل لأخطائه في التطبيق، والمحك في الرد إلى الشرع بعد توثيق دلالته وثبوته، والحذق الجيد للغة العرب مادة وصيغة ورابطة وسياقاً وقرائن بشرط وجود المقتضي وتخلف المانع، وهذا بتحقُّق دليلي التصحيح والترجيح معاً، ولابد من معرفة دور العقل في الدنيويات، ودوره قبل نزول تفصيل الشرع؛ فالله سبحانه قبل تفصيل الشرع طالب الأمم بضرورات عقولهم من البراهين في الأنفس والآفاق.. وأما بعد تفصيل الشرع فلا دور للعقل في الزيادة أو النقص أو الاستبدال أو الاستدراك؛ وإنما دوره الفهم والتمييز والتوثيق دلالة وثبوتاً، والأخذ بضرورة العقل في الاستنباط يقيناً أو رجحاناً، وأما الاستنباط بالظنون فيأباه دين الله.. وميزان الإمام ابن تيمية للإمام ابن حزم رحمه الله ميزاني لابن تيمية نفسه، ولا أزنه بموافقة الإمام أحمد أو غيره؛ لأنَّ العلماء غير متفقين في مسائل فالمرجع إلى البرهان، واستجد عند السلف مسائل لم تُبحث في الصدر الأول؛ فاختلف أتباع السلف وهم أعم من الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ فالبراءة عند الله بالتحقيق وطلب البرهان؛ فإنْ لم يفرغ لمسألة ما اتبَّع أقربهم لأصوله التي أخذ بها باجتهاد من الأموات أو الأحياء، وهذا هو سؤال الذكر، ثم يكون على باله الاجتهاد، ولا نغلو في الإمام أحمد أو ابن حزم أو ابن تيمية... إلخ؛ بل نواليهم، ونتقرب إلى الله بمحبتهم، ونعلم أنهم ليسوا محيطين بكل المعارف الشرعية وآلاتها، ولا نبالغ فنقول: (الحديث لا يعلمه الإمام ابن تيمية لا صحة له)؛ بل نقدم أهل الاختصاص عن التنازع فنأخذ علم الأزهري مثلاً مقدماً في اللغة وإن قصَّر في أصول الفقه، ونأخذ علم ابن هشام في النحو إن قصر في الفقه، ونأخذ علم الزيلعي وابن حجر وغيرهما من أهل الاختصاص في الحديث وإن لم يكن لهم باع ابن تيمية في جدال الفلاسفة والمتكلمين، ونرد مكابرة أهل الاختصاص كإنكار المجاز وفائدة الحد والرسم؛ لأنَّ إنكار الحقائق يجر إلى جدل وأغاليط عن حسن قصد، وهو لا يرضى مثلها في الرد على غيره؛ فلعائن الله تترى على من كان في نفسه شيء من أمثال الإمام ابن تيمية وأئمة الدعوة بغضاً لما هم عليه من تحرِّي الحق؛ بل نحبهم ونواليهم وندعو لهم، وعند الاختلاف فالمسلم متعبد عند ربه باجتهاده عن أهلية، وكل ذو علم عالم فيما علم،جاهل فيما جهل، ولست أخوض إلا فيما حققته، ولم يحرم الله المتأخر عصره من فتوح المعرفة إذا صدقت النية، وكان الاجتهاد نزيهاً بلا حجة، والإمام ابن تيمية رحمه الله جاهد وسجن وأُوذي، ولكن ما نال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى من العوام وملوك الطوائف الخصيان فوق ذلك، فقد سُجن مراراً، وغسلت كتبه، وأحرق بعضها، وضُويق في الأرض حتى قضى حياته في أقصى غرب الأندلس ولم تلن قناته، ولم يهادن مخالفي الملة والنحلة، وعنف ملوك الطوائف لتفريقهم الدولة، مصانعتهم النصارى الذين التهموهم كما تلتهم الفراخ من عشها، ووقع ما حذر منه من سقوط الأندلس؛ فرحم الله هذا الحبر ما أصدقه وأعظم بركته، ورحم كل الربانيين من علماء المسلمين، وإلى لقاء قادم إنْ شاء الله تعالى, والله المستعان.
كتبه لكم:
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -