م. خالد إبراهيم الحجي
إن الشيء الطبيعي في سوق الأوراق المالية «البورصة» هو أن يقوم المستثمرون بشراء الأسهم بأسعار منخفضة، ومن ثم بيعها مرة أخرى عندما يكون السعر أعلى بحيث تحقق لهم ربحًا. ولكن يمكن للمستثمرين أيضاً كسب المال من المراهنة على أسعار أسهم الشركات التي تنخفض؛ وهو ما يسمى «البيع على المكشوف» ومفهومه بسيط إلى حد ما؛ وينطوي على قيام المستثمرين باقتراض أسهم الشركات من شركات السمسرة المسجلة في البورصة، ثم بيعها في السوق بهدف شرائها مرة أخرى بأسعار أقل قبل إعادتها إلى شركات السمسرة؛ وبالتالي يتم تحقيق صافي الربح للمستثمرين من نتيجة الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء بعد خصم تكلفة الاقتراض وعمولات السمسرة.. لذلك كلما انخفض سعر السهم زاد مقدار ربح المستثمر.
وفي بعض البورصات العالمية تتم عمليات «البيع على المكشوف» بشكل إلكتروني، وبسرعة فائقة، وبطريقة فورية، وهذا ما تفعله، على نطاق واسع، الشركات الاستثمارية المليونيرة المعروفة باسم «صناديق التحوط» وهي : صناديق لرؤوس الأموال المجمعة تبلغ مليارات الدولارات، قادرة على بناء المحافظ الاستثمارية، وإدارة المخاطر الأكثر تعقيداً لتحسين الأداء، مثل : المشتقات المالية والرافعة، وعمليات «البيع على المكشوف» التي تمكنها من تحقيق الأرباح الكبيرة حتى مع انخفاضات طفيفة في أسعار الأسهم؛ لأنها تبيع كميات كبيرة من الأسهم دفعة واحدة، وهو ما يدفع أسعار الأسهم إلى مزيدٍ من الانخفاض لصالحهم.. لكن المخاطرة تأتي بعد الارتباط بعقود «البيع على المكشوف» إذا ارتفعت أسعار الأسهم التي كانت صناديق التحوط تراهن على انخفاضها. وهذا ما حدث فعلاً مع سهم شركة «جيم ستوب»، المدرجة في بورصة نيويورك، الذي ارتفع سعره بشكل جنوني، بسبب نوبة الشراء على السهم من قبل صغار المستثمرين الذين اجتمعوا على قلب رجل واحد، وقصتهم على النحو التالي :
اتحد جيش من صغار المستثمرين الذين كانوا ينشطون على منصة التواصل الاجتماعي التي تسمى «ريديت»، عبر منتدى اسمه «وول ستريت بتس»، يناقشون فيه الاستثمار في البورصة الأمريكية، وقرروا سوياً قلب الطاولة على صناديق التحوط التي تستهدف عادة الشركات التي تدخل في مرحلة الاحتضار.. وهدف صناديق التحوط هو اعتصار الأرباح من الشركات المحتضرة حتى آخر رمق. وفي هذه المرة استهدفوا أسهم شركة «جيم ستوب»، وتعد أكبر شركة لبيع ألعاب الفيديو بالتجزئة في العالم ومقرها في مدينة دالاس الأمريكية، بعد أن علموا أنها تضررت بشكل كبير بسبب جائحة كورونا، وكانت تخطط لإغلاق 450 متجراً هذا العام؛ وباتت الشركة مهددة بالانهيار، واستطاعت صناديق التحوط، بفضل عمليات «البيع على المكشوف»، خفض سعر سهمها إلى 18 دولاراً، واستمروا في تكرار عمليات «البيع على المكشوف» في محاولة منهم لدفع السهم إلى مزيدٍ من الانخفاض على أمل أن يصل إلى القاع، لتعظيم أرباحهم عند شرائه مرة أخرى قبل إعادته إلى شركات السمسرة.. لكن ما حدث في هذه الأثناء كان صدمة غير مسبوقة، حيث قرر جيش صغار المستثمرين الذين اتحدوا عبر منتدى «وول ستريت بتس» شراء أسهم في الشركة «جيم ستوب»؛ وأدت طلبات الشراء بشكل كبير إلى دفع سعر السهم إلى الارتفاع السريع، وذلك عكس الانخفاض الذي راهنت عليه صناديق التحوط، لتندلع حرب طاحنة بين جيش صغار المستثمرين وصناديق التحوط، واستمر جيش صغار المستثمرين في الشراء المحموم، فتضاعف سعر السهم عدة مرات ليصل إلى أكثر من 320 دولاراً خلال أسبوع واحد فقط.
وفي الوقت نفسه كانت هناك جبهة أخرى من الحرب مشتعلة، لها علاقة مباشرة بالارتفاع الجنوني لسهم «جيم ستوب»؛ إذ فرضت منصة «روبن هود» التي يتداول عليها جيش صغار المستثمرين قيوداً على شراء المزيد من أسهم «جيم ستوب» بحجة حماية مستثمري المنصة؛ مما أثار حفيظة جيش صغار المستثمرين، فلجأوا إلى السوشيال ميديا لبث المزاعم في سوق البورصة بأن صناديق التحوط لها نفوذ على «روبن هود» لوقف نزيف خسائرهم، وهو ما يتعارض مع قوانين سوق البورصة المفتوح للجميع؛ مما أجبر «روبن هود» على التراجع، وإعلانها استئناف عمليات الشراء للأسهم «جيم ستوب»، الأمر الذي تسبب بموجة ارتفاع جديدة في أسعار أسهم «جيم ستوب» صباح يوم الجمعة 29 يناير 2021 وصلت إلى 400 دولار.
وعند هذه المرحلة وصلت القيمة السوقية للشركة إلى أكثر من 10 مليارات دولار، مقارنة مع 1.22 مليار دولار منذ نحو أسبوعين، فاضطرت صناديق التحوط مرغمة على التخارج من عقود «البيع على المكشوف»، وشراء أسهم «جيم ستوب» بأسعارها المرتفعة لإعادتها إلى شركات السمسرة؛ ونتج عن هذا التخارج خسائر فادحة تكبدتها صناديق التحوط، مقابل الأرباح التي حققها جيش صغار المستثمرين.
هذه الأحداث غير المسبوقة دفعت جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية إلى عقد اجتماع مع المنظمين الماليين، لمناقشة التقلبات الأخيرة في الأسواق المالية، بما فيها سهم «جيم ستوب».
الخلاصة:
إن السوشيال ميديا التي مكنت صغار المستثمرين من الاتحاد، والعمل سوياً كمستثمر واحد، أمر غير مسبوق وجدير بالاهتمام، وبلا شك سيغير بعض استراتيجيات الاستثمار والتداول.