د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
مهما امتدت المسافة بين مفكرَين بحجم «محمد عمارة ونصر أبو زيد» -رحمهما الله- فإن الدكتور محمد عمارة 1931 - 2020 م خاطب الناس بما يفهمونه فسادت رؤاه وصار نجمًا جماهيريًا تدعمه اقتناعاتٌ مطلقة إثر مروره بتحولاتٍ فكريةٍ أضاءت له مسارات الحكم والمحاكمة، والتفت عنهم الدكتور نصر حامد أبو زيد 1943 - 2010م فحوصرت أفكارُه واستقوا نظرتهم له من المؤثرين ومن الإثاريين بالرغم من مقدرته التأصيلية كما التفصيلية، ولم يكسب تعاطفًا كبيرًا حين حُرم من ترقيته ومن زوجته وآثر الهجرةَ من وطنه.
** لا حديث هنا عن صحة وخطأٍ أو اجتراء واجتزاء أو حتى عن إيمانٍ وعدمه، بل عن إدخال العامة في الخطاب الثقافي التخصصي كما صنع أبو زيد بإرادته غالبًا أو دونها نادرًا، وسواءٌ أَختار الضجيجَ أم اختاره الضجيجُ فإن العامة - في مجملهم - وقفوا ضدَّه وتاهت أفكاره أو تضببت وظل أغلبُهم مقتنعين أنه خرج على ثوابت الدين، وتحديدًا فيما يخص قدسية النص الإلهي ودراسته كأي نص بشري، ولو لم يتدارك « طه حسين 1889 - 1973م» موقفه من مرجعية القرآن الكريم التأريخية ودخل بدلًا من ذلك في سجالاتٍ عامة لربما آل إلى ما انتهى إليه أبو زيد، لكنه استوعب الرسالة وأبدل بالكتاب كتابًا دون أن يمحوَه أو يتبرأَ منه فاستعاده الناس بهدوء وما زالوا يرددون عباراته الجانحة إن لم نقل يحفظونها.
** كثيرون يخسرون قضاياهم لأنهم لم يُقدّروا جيدًا أين يكتبون ولمن يتحدثون، ولعل أضواء الانتشار والاشتهار وانتشاء المفكر بدعوات الحضور ومشاعر الحبور تغلب منطق العلمية والنخبوية، وتتجاهل قيم الحوار المتكافئ، وهو أمر وعاه عدد من الباحثين «الشرعيين» - بصورة أخص- فنأوا باختلافاتهم عن المنابر العامة وآمنوا برأيٍ يُفتون به وآراءٍ يتبادلونها بينهم.
** استطاع مفكرون القفز فوق هذا التعارض حين رفضوا نظرية: «إما..أو» فلم ينقطعوا عن العامة وأضافوا إلى التخصص، وتميزوا باعتدالهم في الحالين، ومنهم الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبدالرحمن 1944م - فبالرغم من عُسر منهجه وإيغاله في البحث المتعمق وسكّه المصطلحات الجديدة فقد خاطب العامة كذلك، وكتابه: (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر) أنموذج، وله محاضرات مشهودة لم يتخلَّ فيها عن سمته العلمي، ومثله رقم غير كبير وبخاصة ممن لا يستعلون ولا يستعدون ولا تستغرقهم النجومية فتنحرف بوصلاتُهم، وفي النخب - ولا سيما دارسو الفلسفة - من يريد من الناس أن يكونوا بلداءَ أمام طرحه فيُغرب ويستأسذ، وربما يُنسى في المدى الأبعد.
** ولعل الأهمَّ هنا سؤالٌ قد لا تسعفه إجابة؛ فهل نحن قادرون على احتواء السبيلين: النخبوي والعامي؟ أم حان وقت فصلهما كي لا تلتبس المعلومات ويتردد المتمكنون ويتوارى الثنائيون في زمنٍ صارت دقيقة الحديث الجاد طويلة وزوايا الكلمات مملة، والثواني في «التيك توك» والتغريدة في «تويتر» مصدرَ العلم والحكم.
** الاعتدالُ عدل.