د.فوزية أبو خالد
لم ألتقِ العلم والقلم د. عبد الله مناع ابن الشاطئ (كما سبق ووقَّع اسمه)، وابن حارة البحر وابن جدة وابن الصحافة وابن مدينة جدة، وابن الوطن البار من جباله لسهله ومن صحرائه لسواحله إلا مرتين، رغم حضور هذا الإنسان حضوراً صاخباً وفعالاً على الساحة الثقافية والعمل الصحفي لما يزيد على نصف قرن.
كان اللقاء الأول لقاء عابراً لم يتكرر إلا مرة واحدة فقط بعدها بقرابة عشرين عاماً، ومع ذلك فقد أثر بحضوره الحي وعمله التراكمي بي شخصياً ولا بد بأجيال من الكُتاب والكاتبات. وإنني على ظن حسن أرى أنه وإن رحل لرحاب رحمن رحيم، بإذن الله، فعبير سيرته سيبقيه قلماً مؤثراً بكلمته ومواقفه وعلماً من أعلام تاريخ الكتابة والصحافة المريدة لتقدم البلاد ونهضة المجتمع والتنوير الثقافي.
كان اللقاء الثاني بالدكتور المناع بعد تسلمه - رحمه الله وأحسن إليه - رئاسة تحرير مجلة الإعلام والاتصال، وقد كان ذلك اللقاء «الثاني»؛ بهدف وضع تصور استراتيجي حيوي ومتطلع ووضع خطوط عريضة مضيئة لمجلة الإعلام والاتصال بحضور كلٍّ من : أ. أياد مدني ود. فاتنة أمين شاكر ود. تركي الحمد بمبادرة مستنيرة من د. عبد الله لمشاركته في محاولة مبكرة منه 1998م للخروج من عنق الزجاجة الثقافي والاجتماعي الذي احتبست فيه البلاد والثقافة والصحافة لما يزيد على عقد من الزمان.
وقد كان بادياً عليه (رحمه الله) في ذلك اللقاء الحماس والإخلاص والطموح؛ لإعادة تأسيس صحافة تتسم بروح الإقدام وبروح نهضوية وبأقلام شغوفة مثل ما فعل حين أوكل إليه تأسيس ورئاسة تحرير مجلة اقرأ عام 1974م - 1987م.
وقد كانت تلك الروح الحية التي لمستها وزملاء ذلك اللقاء في عمله على تأسيس مجلة الإعلام والاتصال هي الروح الوثابة نفسها التي كان د. عبد الله مناع (أحسن الله إليه) يكتب مقالاته بها، والتي ينتدي ويحاضر ويؤلف كتبه بها كما عرفتُ ذلك عنه عن قرب من خلال كل حرف قرأته له، وقد كنتُ كلفة دائماً بالقراءة له، بالإضافة لما عرفت عنه من روح أريحية في (مكافآت الكُتاب) حين تراسلتُ معه لمجلة اقرأ وأنا طالبة جامعية بأمريكا بمراجعات بعض الكتب مثل كتاب هشام الشرابي السيسيولوجي مقدمة للمجتمع العربي، وما رأيته فيه من روح حرة متسامحة مع سقوف الكتابة حين تعاملتُ معه من خلال كتابتي الأسبوعية لصفحتين سجاليتين بمجلة اقرأ بعنوان (قطرات في نهر الوطن) لما يزيد على عام إبان عملي معيدة بجامعة الملك سعود، إلى أن أُوقفتُ عن الكتابة بعد مرافعات حارة قام بها لصالحي وإن لم تنجح، إلا أنها نجحت في تسجيل اسمه في ذاكرتي وللتاريخ (كما ذكرت بحضوره إبان تكريمي في اثنينية المثقف الوجيه عبد المقصود خوجة)، بأنه ربما رئيس التحرير الوحيد الذي لم يكن يملك ميلاً خوفياً ولا نزعة مرائية ولا حتى «استحواطية» لقصقصة أجنحة الكلمة أو الحذف من المقالات أو الإضافة إليها, كما كان من القلة النادرة جدااااا من رؤساء التحرير ممن يقف مع كُتاب مطبوعته في وجه الرقابة, ينافح عن حقهم في أداء أمانة الكلمة ولا يتركهم بسهولة لمصير الإيقاف أو الإبعاد عن فضاء الكلمة.. كما كان لا يتجاهل حقوقهم المالية ولا يستكثرها عليهم كما كانت العادة.
يبقى ألا أبخل على القراء وعلى التدوين الخاطف للقطة مما صار يتعارف على تسميته «الزمن الجميل»، وإن لم يكن جميلاً إلا بالمعنى النستولوجي فقد كان له صعوباته وكفاحه وحلاوته ومرارته، أذكر المرة الأولى التي التقيت فيها دكتور عبد الله مناع ولم أنسها على إيغالها في البعد. كان ذلك اللقاء في عيادته بباب شريف كطبيب أسنان، وإن كان ما حملني إلى العيادة لم يكن الألم وحسب، بل الأمل بأن أرى نجماً من نجوم الكتابة وقتها وجهاً لوجه. فقد كنتُ للتِّو قد دخلت جريدة عكاظ ككاتبة بعامود قطرات اليومي حين كنتُ بالمرحلة المتوسطة بالمدرسة الأولى بحي العمارية جنوب غرب جدة قريباً من البحر ومن تراب أمنا حواء عليها السلام.. وكانت هناك أسماء لامعة أقرأ لها على مشراق الكتابة بدهشة وإعجاب، وتجتذبني بجزالة حرفها وبكتاباتها المتميزة وبقوة حضورها في عالم الصحافة، غير أنه لم يكن لبنت في المدرسة ولا لأي كاتبة البتة حينها سبيلاً للقاء تلك القامات البراقة مثل الأستاذ الكبير محمد حسن زيدان والشاعر والكاتب المجدد أ. محمد حسن عواد وأ. عزيز ضياء وأ. ضياء رجب من رعيل المؤسسين الأوائل لحضور سعودي أدبي وصحفي مستنير بمنطقة الحجاز، مع طيف من جيلهم والجيل التالي لهم مثل أ. عبد الله جفري وأ. سباعي عثمان وأ. مشعل السديري وأ. محمد عبد الواحد ود. عبد الله مناع سوى ما كانت تسمح به أريحية أبي وبعد نظره وأمي بأن لي مكاناً مستقبلياً بين نجوم الثقافة والكتابة وقتها، وبأنه لا بأس بالتعرُّف عليهم في حضور والدي ولو لمجرد إرضاء فضولي الطفولي أو الفتي للتو، وإمدادي بالثقة في قدرتي للانتماء إلى فضاء الكتابة ولقاء بعض من رموزها وأسمائها التي سبقتني.
وبتلك النظرة المشجِّعة والشجاعة من والدي ووالدتي عبد الله ونور - رحمهما الله - التقيت زملاء القلم بتعبير أمي، وكانت على رأسهم وقتها على صغر سنها د. خيرية السقاف بمنزل والدها، وبعض من تلك الأسماء التي كانت ملء العين والبصر لجيلي ممن ذكرتُ قبل قليل، رحم الله من ذهب منهم لدار الحق وترك رشة حبر من «أثر الفراشة».
ولا أنسى ذلك اللقاء العابر القصير بالدكتور عبد الله مناع - رحمه الله - فقد أخبرته بأنني قرأتُ أعماله القصصية لمسات وأنين، وبأنني أتابع مقالته بعكاظ فما كان منه إلا أن ضحك ضحكة مجلجلة أجفلتني قليلاً وكأنه غير مصدق، إلا أن استغرابه خف وإن لم يزُل عندما علم أنني صاحبة عامود قطرات. كما لن أنسى ولن ينسى سرب صداقاته السعودية والعربية التي كوَّنها عبر تاريخه الشخصي والأسري والميداني من مختلف الأطياف والأجيال تلك الوقفات المهنية الشهمة التي كان يتخذها د. عبد الله مناع في الانحياز للحق والجمال. رحم الله عميداً حقيقياً من عمداء الصحافة والكتابة بوطننا الغالي، وعظَّم الله أجر العزيزة السيدة هدى أبو زنادة وبناته د. سجى وأ. سندس والابنين الغاليين عمرو وهشام.. عظَّم الله أجري وأجر القلم والثقافة وأجر الوطن.. ورحم الله د. عبد الله مناع وأكرم مقامه في جواره العظيم، فقد كان ممثلاً وحليفاً لمبادئ نبيلة ولمكارم الأخلاق القيمية والمهنية.. وكان حفياً بالثقافة والصحافة.