بقلم علّامة الجزيرة وعلامتها حمد الجاسر -رحمه الله-
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف -بنت الأعشى-
حمد الجاسر علّامة مكان، وأحدوثة زمان، كتب معاجم جغرافية متطاولة للأماكن، ووثق الأنساب لمن سكن الجزيرة العربية وقطنها من القبائل، وأدل دليل وأوضح برهان على هذا كتبه، وتحقيقاته، ومجلة العرب فهي فكرية تراثية علمية أدبية تاريخية، حمل الجاسر فيها القلم على منكبيه ما يربو على الثلاثين عاماً دون أن يكتب فيها حرف واحد دون علمه، وهكذا اختط لها مبدعها هذا الطريق.
ألف الجاسر كتاباً نضيراً من أجمل ما كتب في تاريخ البلدان وسماه: (بلاد ينبع - لمحات تاريخية جغرافية وانطباعات خاصة) وهو واقع في (238) ورقة من القطع الصغير ويمثل مرجعاً قيماً لباحثي علم التاريخ والآثار والجغرافيا والتخصصات الإنسانية على تباينها، وركز فيه الجاسر على بعض الموضوعات التاريخية الهامة التي شغلت ومازالت تشغل اهتمام المؤرخين والتاريخيين والباحثين في مختلف الاتجاهات الفكرية.
هذا وقد مزج فيه بين المادة التاريخية والتجربة الشخصية وذلك حين عرج على مشاهداته الشخصية عندما عين أستاذاً للصف السادس الابتدائي بمدرسة ينبع الابتدائية، وكان ذلك في غضون عام 1354هـ لأربع سنوات متتاليات.
وفي مادته التاريخية اعتمد على المصادر التاريخية التالية التي نص عليها في ناصية الكتاب حين قال: (المغانم المطابة في معالم طابة) و(وفاء الوفاء في تاريخ دار المصطفى)... ورد في كتب الرحلات التي تصف..... معلومات عنها كما في (درر الفوائد المنظمة، في أخبار الحج، وطريق مكة المعظمة) للجزيري المصري، و(الحقيقة والمجاز) للنابلسي، وفي رحلتي القطبي المكي وكبريت المدني وغيرهم، وقد ألف السيوطي رسالة عن ينبع على ما ذكر القطبي إلا أنها غير معروفة الآن لدي).
تلك هي المصادر التي قد تمد الباحث بشيء من أخبار هذه البلاد وتصف له بعض معالمها ومواضعها.
كان الشيخ -عليه رحمة الله- يطرح المعنى اللغوي لكلمة ينبع ثم يحدد موضع المدينة بين خطوط الطول والعرض الجغرافية، مشيراً إلى أن المتقدمين حينما يتحدثون عن ينبع فهم يريدون ينبع النخل أو (ينبع) النخيل وذلك اعتماداً على ما ذكره الهمداني في (صفة جزيرة العرب) كما كان يشير إلى أهم الشخصيات البارزة في ينبع آنذاك فيقول: (ومن ينبع عرف التاريخ عدداً من الرجال المشهورين منهم: حرملة المدلجي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشد بن مالك الجهني وابن أخيه، اللذان أقطعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع.
محمد بن صالح الحسني من أهل القرن الثالث الهجري من (سويقة) من مشاهير الشجعان، ومن الشعراء المجيدين ترجمة صاحب الأغاني في (الأغاني) وفي (مقاتل الطالبيين) ومن شعرائها العباس بن الحسن من أهل القرن الثاني الهجري، ومن الجغرافيين: مسعر بن مهلهل الخزرجي من أهل القرن الرابع له - رحلة إلى بلاد الشرق الأقصى نقل ياقوت قسماً كبيراً منها في (معجم البلدان) ..... والشريف قتادة الذي أسس دولة الأشراف في مكة في القرن السادس الهجري، وله ترجمة في كثير من الكتب التاريخية.
ومن ينبع انتقل جد الأسرة العلوية الحاكمة في المغرب في القرن السابع.
وكما عنى الشيخ - رحمه الله - بالشخصيات الناهضة، اعتنى أيضاً بالمواقع والأماكن التي ذكرها شعراء العرب في أشعارهم، ويظهر في هذه الجانب سمة من سمات التعبير عند الشيخ وهي دمج الجغرافيا بالأدب، فيذهب إلى المعلقات ويبحث في المواضع التي ذكرها ووصفها الشعراء ويقف عليها بنفسه، وقد كان مغرماً بهذا أيما غرام، حيث يقول عن بواكير تفتق عشق هذا الفن في قلبه (تأخر صرف الراتب الشهري لا لي وحدي، بل لجميع موظفي الدولة وبقيت سبعة شهور اضطررت بعدها إلى أن أبيع بعض كتبي، والكتاب الذي رأيته مرغوبا هو معجم البلدان لياقوت الحموي وقد كنت نقدت فيه 150 ريالاً إلا أن الراغب بشرائه لم يدفع لي سوى 60 ريالاً، وتحت تأثير الحاجة قبلت البيع، ولكنني رجوت أن يبقيه عندي شهراً، وفي خلال ذلك الشهر قمت بنقل ما يتعلق بتعريف أمكنة الجزيرة ومواضعها وكنت أمضي كل وقت فراغي في النقل خوفاً من أن ينتهي الشهر قبل انتهاء ما أريد نقله، لقد أصبح لدي بعد هذا العمل ميل قوي ورغبة شديدة في تعرف أماكن بلادنا، بل اتجهت اتجاهاً تاماً إلى هذه الناحية فيما بعد، وأصبحت أجد في ذلك متعة أية متعة....) ثم يتحدث رحمه الله عن ينبع بوصفها أصلاً مستقراً لقبيلة جهينة وموطناً لها.
وفي ينبع النخل التي خصها الشيخ بحديثه هذا عمل مدرساً في مدرستها الابتدائية، وعرج على ذكر حدث هام غير وجهته العلمية فقال: (من ذكريات تلك المدرسة اسند إلي تدريس المحفوظات، فكان أول درس قمت به أمام طلاب السنة السادسة شرح أبيات من قصيدة أبي العلاء المعري المعروفة:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
وكنت قد راجعت شرح بعض مفرداتها. البيت التالي:
يهيم الليالي بعض ما أنا مضمر
ويثقل وضوى دون ما أنا حامل
فكان مما قلت في أول يوم دخلت المدرسة، وفي أول درس القيته: رضوى جبل قريب من المدينة سهل، ترقاه الإبل، لعلي رجعت في ذلك إلى أحد شروح مقامات الحريري، فما كان من الطلاب عندما سمعوا هذا الكلام مني إلا أن قالوا بصوت واحد: لا يا أستاذ ها هو رضوى أمامك، وكانت النافذة مفتوحة وليس قريباً من المدينة ولا تستطيع الابل أن ترقى أعلاه.
سررت من هذا التصحيح وشكرت الطلاب وبينت لهم أن أكثر الذي يحددون المواضع في بلاد العرب كانوا يعتمدون على النقل، وما كانوا يكتبون عن مشاهدة فجاءت كتاباتهم ناقصة خاطئة، وحمدت لتلاميذي موقفهم.... وإذن فإنني قد تلقيت في هذه البلدة الطيبة درساً نافعاً مفيداً في توجيهي إلى هذه الوجهة، ومن يدري فقد تكون لي وجهة أخرى لو لم يجر لي ما جرى؟).
وفي ثنايا الكتاب وثق الشيخ حديثا ثقافيا هاما وهو اجتماعه بالدكتور محمد حسين هيكل صاحب رواية زينب يقول الشيخ (وأثناء اقامتي في ينبع زارها الأستاذ محمد حسين هيكل باشا العالم المصري المعروف ومؤلف كتاب حياة محمد وكتاب في منزل الوحي وغيرهما من المؤلفات الكثيرة، وقد زرته أنا والأستاذ محمد علي النحاس رحمه الله، وكان الشيخ النحاس إذ ذاك مديرا للمدرسة وكنت معاونا له، وقد وجدناه على حالة نفسية من القلق، لرغبته بسرعة العودة إلى مصر، فكان لا يرغب الاسترسال كثيرا في الحديث، وقد أشار إلى زيارته لهذه المدينة في منزل الوحي ومما قال عن ذلك: أصبحت بينبع مطمئنا سعيدا وهبطت إلى غرفة الاستقبال، فالفيت بها قوما من أهل البلد تفضلوا بزيارتي، فلما تبادلنا الحديث عجبت أن تكون لهجة أحدهم أدنى إلى المصرية، وحسبت السبب في ذلك محاذاة ينبع مصر، لكن الرجل أسرع فذكر لي أنه مصري المولد، وأن له بينبع بضع سنوات احترف فيها مهنة التعليم، وأن به إلى مصر هوى، لولا ما يمسكه من لطف أهل البادية، ومن شغفه بالأماكن المقدسة) ويعتبر الكتاب نمطاً من أنماط الترجمة الذاتية، والحديث النفسي، وفيه يتجلى تواضع الشيخ، وعلو همته، ودماثة خلقه وطيب نفسه.
والكتاب من أجمل ما كتب في تاريخ ينبع، ويحكي أنساب أسرها العريقة مثل: آل زارع، وآل الطيب، وآل مقدم، وآل خلاف، وآل شاهين وغيرهم.
وفي الكتاب طرائف تاريخية، وظرائف أدبية محلاة بالأبيات الشعرية، من ذلك:
قصيدة السيد جعفر البيتي، التي يعارض بها قصيدة فتح الله بن النحاس الحلبي المتوفى سنة 1052هـ في المدينة:
رأى البق من كل الجهات فراعه
فلا تنكروا تحكيكه والتياعه
ولا تسألوني كيف بت فإنني
لقيت عذابا لا أطيق دفاعه
نزلنا بمرسى ينبع البحر مرة
على غير رأي ما علمنا طباعه
نقارع من جند البعوض كتائباً
وفراس ناموس عدمنا قراعه
فلو عاينت عيناك ميدان ركضه
رأيت جريء القلب فيه شجاعة
ويزخر الكتاب بالنقول العلمية الموثقة، والقصص الأدبية المؤثرة ولمسات الشيخ الذاتية والتي تصف شغف الشيخ بالعلم، وحبه للدرس، وهيمانه بالبحث، وبذله كل غال ونفيس من أجله، أسبغ الله على جدثه شآبيب العفو والغفران.
** **
عنوان التواصل: hanan.alsaif@hotmail.com