د.عمر بن عبدالله المشاري السعدون
الأصل الثاني: الغرر، وهو: البيع المجهول العاقبة، فالغرر مبناه على الجهالة.
وهذه الجهالة، إما أن تكون في المبيع أو في الثمن، فالجهالة في المبيع قد تكون بعدم العلم بالمبيع نفسه، أو بعدم العلم بصفاته، أو بعدم قدرة البائع على تسليمه.
والجهالة في الثمن، قد تكون بعدم العلم به، أو بتردده، أو بعدم العلم بالأجل. وبيع الغرر محرم، فقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر».
والأصل العام في المعاملات أن: كل فجوة في المعاملات تجلب نزاعاً، وخلافاً بين الطرفين، فالواجب سدها، لأن الشريعة جاءت بالمطالبة بتعميق الأخوة الإسلامية، والبقاء عليها صافية نقية، حتى نكون إخواناً متحابين لا متنافرين، ولا متنابذين ولا متدابرين، فأي فجوة أو ثغرة توجب النزاع، والشقاق، وجب علينا سدها، ومن الفجوات الكبيرة في المعاملات (الغرر)، فإذا وجد فقد وجد الخلف، والنزاع، ولذلك جاءت الشريعة الغراء بمنعه، وتحريمه، وعلى هذا فروع معاملات كثيرة منعت بسببه، منها:
«بيع حبل الحبلة»، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع حبل الحبلة»، وكان هذا من بيوع الجاهلية، فكان الرجل يبتاع الناقة إلى أن تنتج التي في بطنها، وهذا من بيوع الغرر المحرم.
ومنها: «بيع ما ليس عندك»، ففي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا حكيم: لا تبع ما ليس عندك»، وهذا البيع فيه غرر لأننا لا ندري هل التاجر سيجد السلعة أم لا؟
ومنها: «بيع الثمار قبل بدو صلاحها»، فقد جاء في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها»، وهذا لأن الثمرة وهي في مراحل نضجها في خطر كبير، لأن الثمرة معرضة للآفات، ولا يعرف هل سيتم صلاحها أم لا، فتلحقها الآفات، وهذا من بيوع الغرر المحرم شرعاً، وهو باب لأكل أموال الناس بالباطل، ومن صور الغرر في المعاملات المعاصرة، التأمين، والقمار.
وهناك شروط للغرر المؤثر في تحريم المعاملات:
الشرط الأول: أن يكون الغرر في عقود المعاوضات المالية: وهذا الشرط يخرج غير المعاوضات المالية، مثل عقود التبرعات كالهبة.
الشرط الثاني: أن يكون الغرر كثيراً: وقد أجمع العلماء أن الغرر اليسير لا يؤثر، واختلفوا في الغرر المتوسط هل يؤثر أم لا على قولين.
الشرط الثالث: أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة: أما الغرر الذي يكون تابعاً للمقصود من العقد فإنه لا يؤثر، كما جاء في القاعدة الفقهية: «يغفر في التوابع ما لا يغفر في غيرها».
الشرط الرابع: ألا تدعو للعقد حاجة: والحاجة قد تكون عامة وهي: ما يكون فيها الاحتياج شاملاً وعاماً للناس، وقد تكون خاصة بفئة من الناس، كأهل بلد، أو أهل حرفة معينة، وأيضاً قد تكون حاجة فردية، وهي: ما يكون فيها الاحتياج خاصاً بفرد، أو أفراد لا يجمعهم رابطة واحدة.
ويشترط في الحاجة التي تجعل (الغرر) غير مؤثر في جواز المعاملة، أن تكون الحاجة متعينة، ومعنى ذلك: أن تنسد وتغلق جميع الطرق المشروعة للوصول لهذا الغرض، قال النووي رحمه الله: «إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، أو كان الغرر حقيراً، جاز البيع، وإلا فلا».
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وما يظن أن هذا نوع غرر فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير، والحاجة داعية إليه، وكل واحد من هذين يبيح ذلك، فكيف إذا اجتمعا».
** **
كاتب العدل، والمستشار الشرعي في فقه المالية الإسلامية