في يوم من أيام شهر جمادى الآخرة عام 1418هـ وبينما كان أستاذ النحو في السنة الثالثة من المرحلة الجامعية يشرح باب الحال، عرض إلى الحال المؤكدة، فذكر ما درج عليه النحويون من التمثيل لها بـ(زيدٌ أبوك عطوفًا) فالأب من شأنه العطف، فلا معنى جديدًا ستضيفه الحال، فما هي إلا مؤكدة لمضمون الجملة، فشُغل الفتى بهذا المثال عن الدرس، وهجمت عليه الذكرى، واستوقفه التأمل في ماضي حياته وحاضرها، وحاله مع أبيه، الذي صادف أن كان في تلك الفترة مصابًا بعارض صحي شديد، فقاده تأمله إلى استشعار العطف الذي أشار إليه النحويون، لقد أدرك صدق المثال وانطباقه على حياته، ففي كل جزء منها أثر لعطف أبيه، وصورة من حنانه، وجِلال من حبه، وإن تلوَّن بالهيبة، واختفى وراء قناع من الحزم والقوة، فلقد أدرك هذا العطف في نظراته وكلماته، في لينه وقسوته، في هيبته وتبسُّطِه، في بذله وأخذه، فما أخذ إلا ليعطي، وما قسا إلا ليرحم، وما اكفهر وجهه أو علا صوته إلا وهو يواري خوفه عليه ورقته.
أدركه في أخريات الكهولة، وأوائل المشيب، قليلَ السفر، قعيد البيت والمسجد، لا ارتباطات اجتماعية غير مرة في الأسبوع، سويعات في مساء الأربعاء، ولا سفر إلا أسبوعًا واحدًا في السنة والسنتين، فكان قريبًا منه جسدًا وقلبًا، على ما بينهما من فارق في العمر، ناهز الستين سنة.
لقد استمد من قربه، واستقوى من هيبته، كما تقلب في عطفه ورحمته، فكان الأسبوع الذي يسافر فيه أثقل أيامه عليه، كل شيء يتغير، توحشه ظلمة غرفته، وإغلاق دكانه، حتى طعام الغداء الذي لا يجلس إليه فيه، والمسجد الذي يجده موحشًا دونه، يتأمل في مصحفه، ويراقب مكانه، والمدرسة يزيد بغضها إذا سافر، ويظل يعد الليالي التي تفصله عن موعد أوبته.
وتمضي الأيام، ويتغير الزمان، حتى اكتهل الفتى، وجاوز الوالد المائة، ولا يكاد يقوى على فراقه، أو يسلو إن بعُد عنه، ظل كما هو قربًا وتعلُّقًا وملازمة.
زار الفتى في صباه بيت أحد أقربائه، يلهو مع من هم في سنه من أبنائهم، وكان والدهم يومذاك مسافرًا، فرآهم يمرحون ويلعبون، لم يتغير شيء في حياتهم، ولا ظهر شيء من فقده في عيونهم، فاستغرب ما رآه من حالهم، وتعجب كلَّ العجب من عدم اكتراثهم.
لم يكن أرقَّ قلبًا منهم، ولا أبرَّ بأبيه منهم بأبيهم، ولا يزعم أن أباه كان أرقَّ ولا ألين من أبيهم، ولكن أباهم كان كثير السفر، كثير الأشغال والانشغال، لا يكاد يجالسهم في اليوم إلا دقائق، وربما مر الأسبوع لم يروه فيه، ارتباطاته أخذت وقته، وسرقت بهجة أولاده، فكان في هامش حياتهم لا في صلبها، يكتفون من الحنان باسمه، ويتناوشون الأبوَّة من سمعته، فأي فرق بين سفره وحضره!
وما يزال يذكر شاهدًا لاستمداد القوة والثقة من قرب الأب، مما مر عليه في حياته واستعصى على النسيان، فقد كان من أصدقائه الأصفياء وقت طفولته صديق انفصل أبواه، فسكن مع أمه في بيت جده، وكان في غاية الأدب والخلق، ومما يذكر من حاله محافظته على الصلاة في المسجد، زاره أبوه أيَّامًا، فرأى الفتى فرحة تشع في وجهه، وقوة تملأ ناظريه، اختلفت أيام والده عن بقية الأيام، كان الفتى يسأله معاتبًا إذا فاتته الصلاة، عما منعه عن الجماعة، يعاتبه وهو أصغر منه، فكان في سائر وقته يجيبه إجابة من يعتذر، سأله وقت زيارة أبيه، فقال له بنبرة ثقة: (وما دخلك أنت؟!).
القرب البدني كالقرب النفسي تأثيرًا، والحريص على قوة الآصرة بينه وبين أولاده من يقترب منهم القُربين، والأب المشغول والمتشاغل كالأب المفقود، كما قال شوقي في أبياته المشهورة:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه من
همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلا
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما
وبحسنِ تربيةِ الزمان بديلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أُمًّا تخلت أو أبًا مشغولا
ليست الأبوة وحدها كافية لتحقيق الحنان الكامل، لن يبلغ الحنان كماله حتى تشفع الأبوة بحنان العشرة الحسنة.
رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم