منذ ما يزيد عن سبعين عاماً على انطلاق صوت الإذاعات السعودية، وهي تسهم بجهد وافر في التنوير الثقافي والأدبي، من منطلق مبادئ السياسة الإعلامية السعودية التي تؤكد على تخصيص برامج ثقافية رفيعة المستوى ومتعددة الاتجاهات للفئات المثقفة لتلبية احتياجاتهم الفكرية، وانسجاماً مع رسالتها وأهدافها النبيلة القائمة على هدي الكتاب والسنة. ولاسيما أن الإذاعة السعودية بدأت حينها من حيث انتهى الآخرون فاستفادت كثيراً من التجارب الإذاعية الأخرى في بعض الدول العربية التي سبقتها في هذا المجال، فحرصت منذ إنشائها على استقطاب الكوادر الإذاعية الجيدة من معدين ومذيعين ومخرجين، سواء من داخل المملكة أو خارجها، مع التركيز على العناصر التي تميزت بتجربتها الثرية إعلامياً وثقافياً، مما كان له الأثر الكبير في بلوره الشكل البرامجي ذي التوجه والطابع الثقافي، فضلاً عن فتح باب الإذاعة على مصراعيه للمثقفين والمفكرين والأدباء ليسهموا في صناعة محتوى برامجي يعكس كل الاتجاهات الثقافية والفكرية , ويلبي احتياجات المجتمع ويرتقي بوعيه وثقافته.
لذا حرصت الإذاعة السعودية على مواكبة المرحلة التي انطلقت منها والتي كان المجتمع فيها صغيراً ومحدود الثقافة ودائرة الوعي لدية ضعيفة, فاستطاعت الإذاعة حينها أن تلعب دوراً مميزاً في توسيع هذه الدائرة لتمنح المستمع جرعات ثقافية وتثقيفية، توسع مداركه وتفتح افقه المعرفي، وتعمل على بناء شخصيته من خلال البرامج المتعددة والمتنوعة التي تلامس اهتمامه وتحقق تطلعاته واحتياجاته آنذاك.
فكانت الإذاعة في تلك المرحلة بمثابة المرشد والموجه للمجتمع، والمصدر الذي ينهل منه ثقافته المعرفية وتتشكل من خلاله شخصية أفراده عبر ما يبث وقتها من برامج أدبية وثقافية وشعبية، وبرامج الأركان الخاصة بالأسرة والطفل والطالب والمزارع وغير ذلك من شرائح المجتمع الذي يستقبل هذه البرامج بشغف كبير مما كان له أبلغ الأثر في وجدان جمهور المستمعين، واستمر هذا التأثير الإيجابي في تنامي مطور باعتبار الإذاعة في وقتها كانت سيدة عصرها وفارسة ميدانها.
ثم نقلنا هذا الاهتمام بالإذاعة وبرامجها إلى مرحلة أخرى أكثر احترافية في الأداء وجودة المحتوى، وأصبح للبرامج الثقافية والأدبية في الإذاعة السعودية مكانه لا يخطئها السمع ولا تغيب عن ذاكرة المستمع المهتم بالحركة الأدبية والثقافية في المملكة، نظراً لإتساع رقعة تغطية البث الإذاعي، وزيادة ساعاته لتصل إلى أربع وعشرين ساعة يومياً، الأمر الذي أوجد مساحة كبيرة للتنوع البرامجي والإثراء النوعي لتلك البرامج مع الحرص الشديد على الالتزام بقواعد اللغة العربية في الإعداد والتقديم، واستقطاب كفاءات إذاعية متميزة أسهمت في جودة المحتوى البرامجي، وهنا برزت برامج ثقافية وأدبية، ساعد في ظهورها النهضة الأدبية والثقافية التي تعيشها المملكة ممثلة في الجامعات والأندية الأدبية والمنتديات والمهرجانات الثقافية، مما وَفَّر ثراءً ثقافياً وأدبياً تماهت معه الإذاعة وتفاعلت مع مخرجاته، فتعددت برامج الإثراء الثقافي وأتيحت الفرصة للمواهب الأدبية لتجد سبيلها نحو الظهور والبروز الإعلامي من خلال برامج الإذاعة.
وبهذا ارتفعت نسبة البرامج على خارطة البث الإذاعي مقارنة مع الفترة التي سبقتها، وهذا ساعد بدوره على إيجاد كوادر إذاعية مثقفة تميزت بها هذه المرحلة من مراحل تطور الإذاعة السعودية برامجياً، كما ارتفع منسوب الاستماع والمتابعة من قبل المهتمين بفنون الأدب والثقافة والمحتوى الرصين لكل البرامج الإذاعية التي كانت الإذاعة تحرص على جودتها محتوى ولغة وأداء..
ثم ما لبث أن ظهرت البرامج التفاعلية المباشرة التي تفاعلت معها الإذاعة السعودية بشكل كبير وبظهور هذا النمط من البرامج أضافت الإذاعة لقاعدتها الجماهيرية عدداً أكبر من المستمعين، بل من المشاركين في صياغة محتوى برامجها من حيث المشاركة الفاعلة في القضايا والأفكار والرؤى المطروحة، وأصبح صوت المستمع حاضراً في معظم برامجها، ليس هذا فحسب، بل خرجت الإذاعة من إستديوهاتها إلى المجتمع في مكانه لتبث برامجها من مواقع المهرجانات والمحافل والمناسبات، كما استطاعت أن تؤسس لعلاقة وثيقة ووطيدة بينها والمستمع، وأن تؤثر في تشكيل توجهاته وتنمية ثقافته حتى وإن لم يحالفه الحظ في الحصول على مستوى تعليمي جيد.
وفي هذه المرحلة تغير نمط البرامج الإذاعية، من برامج مسجله إلى برامج تفاعلية مباشرة ومواكبة للفعاليات في مكانها وزمانها، وهنا استطاعت هذه البرامج بشكلها التفاعلي الجديد أن تكوَّن رأياً عاماً لدى جمهور المستمعين نحو العديد من القضايا المطروحة سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي مستفيدة من تنوع وتطور وسائل الاتصال والتواصل ا لاجتماعي. وكل هذا بلا شك أثر إيجاباً في الوصول إلى المستمع والتفاعل معه وجعله شريكاً في كل ما يقدم عبر برامج الإذاعة.
** **
يحيى ناصر الصلهبي - مدير عام إذاعة الرياض سابقاً