فيصل خالد الخديدي
الفنان ابن بيئته ونتاج مجتمعه، ومتى ما كان متجذراً في عمق قضايا محيطه متى ما كان مزهراً بجمالياته مثمراً بصدق رسائله، وإحساس الفنان بمجتمعه وهمومه وآلامه وآماله يجعل نبضه شفيفاً يمثل هذا النسيج المجتمعي بمختلف مستوياته، فرسائل الفن أقوى وقعاً من كثير خطابات وناقوس جمال يقرع بخفة وعمق وفخامة لجملة وقائع مقلقة تلامس الإنسان وبيئته وذاكرته وتلقي بظلالها على قادم مستقبله..
لعل هذا الإحساس وأكثر يصل للمتلقي بمجرد دخوله للعتبات الأولى من المعرض الشخصي (وقر) للفنان أحمد حسين الذي أقيم -مؤخراً- في قاعة داما آرت، فلا صوت يعلو في المعرض على صوت الطبيعة وهمسها وشيء من الأنين, فقطرات الماء تتحدث بجلاء يمتد من الذاكرة ليخاطب حاضر الأشياء وينبه قادم الأيام.
وفي العتبة الأولى من معرض (وقر) يصافحك بيان المعرض الذي جاء فيه (معرض سردي لأحداث من ذاكرة الفنان.. حيث الذاكرة هي الهوية.. والهوية هي خبرات ومواقف وأحداث.. تراكمت مع تراكم الأيام.. أخرجها الفن في صورة تفاعلية حية.. يؤمن أن توثيق التاريخ الإنساني هو ما يشكّل هوية المجتمع بأكمله.. ففي يومٍ ما.. كان بين المطر والصخر حكاية.. تتخلّق الأرض لتصنع تجاويف الصخور وتحتفظ بالمطر لأطول مدة ممكنه.. ثم يأتي الإنسان ليجرّب أول أساليب تنقية الماء بأقدم فهم عن التلوث.. هذا المعرض هو إثارة تساؤلات وفتح منافذ ضوء ورسم لنهايات مفتوحة حول ثروة الماء.. إنه نداء الوعي من الزمن الأول.. حول استمرارية الحياة، وهو بيان يمهد لما بعده من أعمال ويؤسس لفكرة المعرض وتساؤلاته, لتتوالى أعمال المعرض التي بدأت بشاشة تعرض فيديو لمقاطع من مناطق جبلية مختلفة توضح العلاقة الطبيعية للصخر وتجويفاته بالماء وتجمعاتها مصاحبة له أصوات من طبيعة المكان، بالإضافة إلى صوت قطرات الماء التي يعج بها المعرض، لتنتقل العين بعد ذلك لثلاث مجموعات من الأعمال التي تجمع بينها أكثر من عشرين ألف قطعة قطرات صناعية بمادة الريزن متدلية بمستويات من سقف المعرض لتشكل سحابة كرستالية بهية المنظر جميلة الشكل على امتداد سقف المعرض ولتفصل بين مغذيات الماء الطبيعي بأعلى السقف وبين قطع الصخر المجوفة بأسفل قاعة العرض، كما تمتد قطع من الشاش الأبيض في العمل الثاني بأحد حوائط القاعة لتشرب من الماء المتبقي بوقر الصخر المجوف وتعزل ما علق به من شوائب وتلوث.
قدم الفنان أحمد حسين نفسه في معرضه وقر فناناً مفكراً وناشطاً بيئياً ضد ممارسات تهدد الطبيعة والجمال، فيصرخ بالجمال في وجه التلوث والجفاف، ويقدّم دعوة ناعمة للمحافظة على ثروة الماء والحذر من التلوث، ولو كان يغري بجماله الصناعي الأخاذ، فالقطرات البلاستيكية المصنعة، وإن كان جمالها الكرستالي يلاطف الأعين إلا أنها لا تغني عن الماء الطبيعي ولا تمثله، بل إنها ابنة المصانع والتلوث الذي يقضي على كثير من المقدرات الطبيعية، ويهدد مستقبل العلاقة بين ماء السماء واستثماراته الطبيعية والمكنونات الجوفية من الماء والإفادة منها, فالماء قضيته والتلوث مهدد لها ووقر الصخر ذاكرة تحفظ شيئاً من المواقف والعلاقة البدائية بين الأحياء وبقايا الماء الذي تحفظه هذه التجويفات الصخرية.
لقد نجح الفنان أحمد حسين في تقديم رسالته بمختلف مستوياتها التي تمتد من الذكريات إلى مدلولات ورسائل عميقة يحققها المعرض, وأجاد في خلق الأجواء المحيطة بعرضه من أصوات القطرات وتسلسل معروضات, فتميز بعرض الفيديو والصخور وقطرات الماء والاستفادة من جميع إمكانات فضاء المعرض، ليقدم معرضاً مختلفاً قائماً على المفهوم نابعاً من بيئته ويعالج قضية بيئية إنسانية بطريقة ناضجة ومعاصرة.