عبد العزيز الصقعبي
ها هو ماثل أمامي، ذلك المبنى الصغير، لا أدري كيف غادرت بيتي لأصل إلى هذا الحي الذي عشت به زمن الطفولة، وأجد نفسي واقفاً أمام ذلك المبنى الصغير، ليس حلماً، ولكن ما أراه أشبه بالخيال، أتقدم قليلاً وأقرر أن أتحدث مع رجل واقف أمام باب البيت، لا يجيب بل لا يتحرك، أتقدم أكثر، وأقترب منه، ينظر إلي دون أن يتحرك، عيناه لا ترمشان، أقرر أن أتجه إلى باب البيت وأدخل، ليس هنالك باب بل حاجز يمنع من الدخول، هل هي صورة كبيرة متقنة ودقيقة، هل نظري لم يفرق بين الأصل والصورة، أبحث عن مقعد لأجلس وأفكر بهدوء، أجد أن لباب البيت عتبة، بعيدة قليلاً عن الرجل الواقف عند الباب، أتجه إليها وأتأكد من وجودها، وأجلس، أجل هذه العتبة لم تتغير منذ أكثر من نصف قرن، لكن لماذا يستمر الرجل واقفاً عند الباب، ألا يتعب، هنالك حيّز بجانبي ليأتي ويجلس، لنتحدث قليلا، لكنه لا يتحرك، ربما هو دمية كبيرة على صورة رجل له علاقة بذلك المبنى، أقرر أن أتوقف عن تأمل المبنى الصغير لاسيما وأنه الآن خلف ظهري، وأتأمل بقية المباني والشارع الذي يطل عليه المبنى، ولكن لا أرى شيئاً، الوقت ليس ليلاً، ربما منتصف النهار، والضوء وشيء أشبه بالضباب محيطان بالمبنى، وبسبب ذلك لم أتمكن من رؤية شيء مطلقاً باستثناء ذلك المبنى الغريب القديم الذي لا يمكنني دخوله، يوجد فقط باب واحد، في الجانب الأيسر من الواجهة، وعتبة أمام الباب، ولكن على بعد أقل من ثلاثة أمتار في الجانب الأيمن يوجد دكان قديم بباب خشبي، أتذكر ذلك الدكان، أقف وأتجه إليه، الباب من درفتين صنعت من خشب سميك وقديم، عاث بجزء منه الأرضة، ينفتح بصعوبة، أتمكن من الدخول، وقبل الدخول أنظر للرجل الواقف، ربما يتحرك، ولكن أتفاجأ باختفائه، هل غادر، وكيف لم ألحظ ذلك، وبيننا بضع خطوات، لا أشغل نفسي بالرجل واتجه إلى داخل الدكان، ظلام شديد، وغريب، من المفترض أن يدخل ضوء النهار بمجرد فتح الباب، وعرض درفتي الباب قرابة الثلاثة أمتار، لم أشاهد حتى يدي في ذلك الظلام، خرجت لأتأكد من أن هنالك ضوءًا بالخارج، المبنى يسطع بضوء النهار، وما حوله يجمع بين الضوء والضباب، ضباب أبيض، ولكن السواد يعم الدكان على الرغم من بابه المشرع، حين دخلت الدكان سرت خطوات للداخل، لا يوجد حاجز مطلقاً يمنعني من الدخول، بل بإمكاني المواصلة للأمام، وسط ذلك السواد، فكرت أن أبحث عن كشاف، مصباح، شمعة، ولاعة، عود ثقاب، لا يوجد مطلقاًولي أي مصدر للضوء أو النار، حتى لا يوجد على الجدران قوابس للكهرباء، أقرر أن أتقدم بضع خطوات داخل الدكان وسط الظلام وأصرخ بأعلى صوتي، ربما يأتي أحد، ربما يضاء نور الدكان، لا أدري لماذا أسميه الدكان، أذكر عندما كنت طفلاً كان ذلك المكان دكان صغير لبيع الحلويات، ربما يبيع أشياء أخرى ولكن لا أتذكر إلا الحلويات، أصرخ أكثر من مرة ولكن لا صدى لصوتي، بدأت أشعر بالقلق، أنا هنا أمام هذا المبنى، لا أدري كيف وصلت له، ومن أحضرني، المبنى هو الوحيد الذي أراه، فقط، لا أرى شارعاً ولا بقية الأبنية، حتى المسجد الصغير الذي يقع بجانب المبنى، وأنا أذكر ذلك جيداً، لا أراه، ربما هو موجود ولكن غير مرئي مثل الشارع وبقية المباني الأخرى، أنا وحيد أمام ذلك المبنى، كان هنالك رجل أشبه بالدمية واختفى دون أن أفطن له، كان يراقبني دون أن يرمش له جفن، لا أعرفه، أنا متأكد أنني لا أعرفه، أحتاج إلى قرار سريع، هل أدخل الدكان وأواصل سيري وسط الظلام حتى أصل إلى مكان مضاء، أو أصطدم بشيء، أو أغادر الدكان وأتجه لذلك الضباب، إلى أي اتجاه، ليكن المسجد، أو بيتنا عندما كنت طفلاً، والذي يقع في نهاية الشارع، على بعد أربعة أو خمسة مبانٍ من ذلك المبنى، ولكن أعرف أن بيتنا، نالته التوسعة وأصبح مكانه طريقاً ممهداً، وبقي ذلك المبنى الذي أمامي الآن صامداً، لا أجرؤ على مغامرة البياض والسواد، أعود للجلوس على عتبة البيت، ألمح الرجل يقف أمام مدخل الدكان المشرع بابه، لا تتضح لي ملامحه جيداً، ربما اكتسب كثيراً من السواد من داخل الدكان، أقرر أن أصرخ وأقول له «أريد حلوى»، ربما كان البائع في ذلك الدكان، هل سيحضر لي الحلوى، وهل ستكون لي القدرة على أكلها، أتذكر أن الطبيب منعني من الاقتراب من جميع الحلويات، ولكن لا يهم إذا أحضر لي الرجل حلوى، سآكلها، أقف واتجه إليه، وأقرر أن أكرر طلبي، ربما لم يسمعني، أنا لا أسمع بصورة جيدة، ربما هو يشبهني، أقترب منه وأقول «أريد حلوى» أقترب أكثر، تتضح لي ملامحه، إنه يشبه الطبيب الذي يشرف على علاجي، سيعاتبني حتماً لرغبتي بتناول الحلوى، هل أقول له شاهدت هذا المبنى والدكان، وتذكرت الحلوى التي كنت أشتريها وآكلها، ولكن ليس هنالك دكان، بل سواد، وسواد غريب يجعلني محتار من وجودي أمام مدخل الدكان، في ذلك المبنى وبالقرب من الرجل الذي يشبه الطبيب، ولكنى لست متأكداً، حتى من نفسي، لا أدري لماذا هذا المبنى هو الوحيدالباقي في ذلك المكان، والذي أستطيع أن أراه الآن، بطبيعتي لا أحب المغامرة، وابتعادي عن المبنى يعد مغامرة، وأيضاً توجهي لمكان يعمه الظلام، الأمر الأهم لا علاقة لي بهذا المبنى، فقط هو المبنى الكبير الوحيد عند مدخل جينا، أكبر من بيتنا الطيني، الرابط الوحيد في ذلك المبنى هو ذلك الدكان الذي كنت أشتري منه حلوى لذيذة عندما كنت صغيراً، أذكر أنني كنت في بيتي، وفجأة قررت أن أغادره في غفلة عن أبنائي، أذكر أنني كنت أجلس على مقعد متحرك، ولكن أنا الآن أقف أمام هذا المبنى الذي لا أدري كيف وصلت إليه، إنني أقف، أمشي على قدمي، أجلس على تلك العتبة الصغيرة، أحاول أن أدخل المبنى، ولكن الباب مغلق، أشبه بحاجز يمنعني من الدخول، ولكن أنا أتحرك وأفتح باب الدكان الخشبي، وأتجه إلى الداخل، وأخرج مباشرة خائفاً من السواد، والرجل الذي يشبه الطبيب أراه ثم يختفي، بياض ضبابي غريب يحاصرني ويحاصر المبنى، أقرر أن اتجه للرجل، الذي عاد للوقوف بجانب باب المبنى، وأبتعد قليلاً عن الدكان بعد أن أغلق بابه الخشبي، الغريب أن ألوان ذلك الباب ما زالت زاهية، على الرغم من السنوات الطويلة التي مرت عليه، والأرضة التي عاثت بالجزء الأعلى منه، «لا أريد حلوى»، أريد أن أعرف أين أنا، أريد أن يحدثني أحد، أن يمسك بيدي ذلك الرجل ويدخل معي ذلك المبني، الذي لم أدخله طيلة عمري، ولكن ما الفائدة من دخول المبنى، أفكر بطريقة للعودة إلى بيتي، لابد أن أسرتي أصابها القلق لغيابي، ربما، الرجل اختفى مرة أخرى عندما فكرت أن أتجه إليه وأتحدث معه، لا بد أن أهدأ قليلا، أنا لا أدري لماذا لم ألتفت لأنظر خلفي، حتى عندما جلست على العتبة، لم أنظر للمبنى الموجد خلفي، بل تأملت ذلك الضباب المضيء الغريب، ثم لمحت باب ذلك الدكان، فقط عندما التفت يميناً، لا بد أن أدير كامل جسدي للخلف لأرى أين أنا، أشعر أن جسدي مسجى على سرير، كيف تحركت إذا، هل كنت أتابع نفسي وأنا أتحرك، البياض يحيط بي، و أمامي صورة ذلك المبنى، أجل، أعرف ذلك المبنى ولكن من علق صورته على ذلك الحائط الأبيض، الرجل الذي كان واقفاً أمام مدخل ذلك المبنى يقترب مني، إنه فعلاً الطبيب، يبادرني قائلاً «أأعجبتك تلك الصورة»، قلت «ليتك تحضري لي حلوى من ذلك الدكان» ابتسم وابتعد عن تلك اللوحة التي بدأ يجتاحها البياض.