د. محمد بن عبد الله المشوح
التاريخ و الواقع والمستقبل
لا يسَع أيّ باحثٍ عن المشاهد الثَّقافيَّة العربيَّة عمومًا، والمشهد الثَّقافي السُّعودي خصوصًا، وعن بداياته ومنطلقاته وإسهاماته ورموزه وأعلامه؛ إلا أن يتوقف طويلًا عند أهم الرَّوافد التي كانت تغذِّي الثَّقافة.
ولا شكَّ أن الكتب والصُّحف اليوميَّة والدوريَّات بعمومها والمجلَّات والثقافية تحديداً تقع في مقدمة تلك الرَّوافد الثَّقافيَّة.
ولقد ظل المشهد الثقافي العربي في أوائل هذا القرن يحمل علاقة وطيدة مع الصُّحف والدَّوريَّات والمجلات التي كانت منطَلقًا لصقل المواهب العلميَّة والثَّقافيَّة.
وشكلت المجلات الثقافية أحد الروافد للوعي الثقافي بل هي مظهر ومنفذ معرفي عميق استمر كأحد أهم الأوعية لتكوين المعرفة لدى القارئ والمثقف العربي.
ولم يقتصر دور المجلات الثقافية على المحرك الثقافي والمعرفي فحسب بل كانت كذلك عموداً رئيساً في تحريك الوعي الاجتماعي عبر طرح العديد من القضايا الاجتماعية وسبل حلها ومشاركة المجتمع كذلك.
لقد أسهمت المجلات الثقافية بدور رئيس في الحراك الثقافي العربي عموماً السعودي خصوصاً.
والمشهد السُّعودي كان له حضور لافت في ذلك، ولا شكَّ أنَّ المجلَّات كانت تشكِّل أحد النوافذ الكبرى للتَّعرُّف على الثقافات الأخرى، وكذلك المشاركة والكتابة والتَّدوين في مثل هذه المجلَّات.
ولقد سمعنا من روَّاد الثَّقافة السُّعودية ورموزها في أحاديثهم عن سِيَرهم وبداياتهم وقراءاتهم العلاقة الوطيدة التي كانت تربطهم بالعديد من المجلَّات العربيَّة، كمجلَّة الأدب والرِّسالة والثَّقافة والأديب والهلال والطَّليعة وغيرها من المجلَّات التي كانت تصدر آنذاك.
وإذا تحدثنا عن المجلَّات العربيَّة وعلاقة المثقَّف العربي بها، أو كذلك المجلَّات السعوديَّة وإسهامات العربي وإسهامات المثقَّف السُّعودي فيها فإنها تحتاج إلى وقت طويل، لكن يحسن التوقف عند الآتي:
أوَّلًا: إنَّ المجلَّات الثَّقافيَّة ارتبطت بالبدايات الأولى للكتابة لدى كثير من المثقَّفين السُّعوديين. وانجلى ذلك في السِّيَر الذاتيَّة التي دُوِّنت من قبل العديد من الشَّخصيَّات الثَّقافيَّة من الأدباء والشُّعراء وعموم المفكرين السُّعوديين؛ فإنهم يربطون بداياتهم الأولى مع النَّشر، أو البدايات الثَّقافيَّة في المشاركات عبر المجلَّات.
والسير الذاتيَّة حافلة بالعديد من المواقف التي تنبئ عن علاقة المثقَّف بالمجلَّات. إضافة إلى أن البعض من المهتمين برصد الحالة الثَّقافيَّة السُّعودية عُني بتدوين بعض هذه المواقف، ومن أمثال ذلك ما كتبه الأستاذ الصَّديق مُحَمَّد القشعمي في كتابه «بداياتهم مع الكتابة»، وقد رصد أكثر من مائة شخصيَّة عربيَّة وسعوديَّة كيف كانت بداياتهم مع الكتابة وغالبهم كانت مع المجلات.
وهنا يمكن أن أتوقف عند بعض اختياراتي لخمس أو ست شخصيَّات ثقافيَّة سعودية كيف كانت علاقتهم مع المجلَّات وكتابتهم ومشاركتهم فيها.
يقول الشيخ محمد العبودي:
وقد اشتركنا معاً في نسخة واحدة من مجلة المنهل للأستاذ عبدالقدوس الأنصاري، فكانت هذه المجلة بحق مرآة للنشاط الأدبي في بلادنا في ذلك الوقت، إلا أنه يلاحظ أنه لا توجد إسهامات لأهل القصيم فيها ما عدا كتابات متفرقة بعد ذلك.
وكانت لدينا مثاليات تجعلنا نفرح بأي قارئ للكتب الأدبية والمجلات العصرية والصحف اعتقاداً منا بأن ذلك مما ينير عقول الشباب ويدفع إلى نهضة علمية فيها تواكب النهضة العلمية والأدبية الموجودة في الحجاز.
ويقول في موضع آخر:
حبب إليَّ النظر في الأدب الحديث فكنت أتذاكر في ذلك مع صديقي الأستاذ علي بن عبدالله الحصين، وكنا نشترك في الصحف والمجلات الأدبية معاً بمعنى أن نشترك في الرسالة باسم (محمد بن ناصر العبودي وعلي بن عبدالله الحصين) في نسخة واحدة ثم صرنا نشتري الكتب الأدبية بصفة مشتركة أيضاً ولم نكن نختلف على من تكون له النسخة، ذلك بأن صداقتنا قد بلغت مبلغاً تجاوز ذلك، حيث كان هو صديقي في هذه المرحلة من عمري أكثر من أي صديق آخر، وكنت صديقه القريب منه أكثر من أي صديق آخر.
كلمة في المنهل:
وقع بيني وبين أصدقاء لي من هواة الأدب بحث كتبه الأستاذ سالم الدبيب وزدت على ذلك بياناً، روى أحد الأصدقاء الأستاذ سالم الدبيب رئيس ديوان إمارة القصيم وعدلت من الكلمة وقد بعثتها لتنشرها مجلة المنهل فكان جوابها هذا الكتاب.
تقول مجلة المنهل في جوابها ذلك:
وصلتنا كلمتك ومع الشكر قد أدرجناها ضمن مواد مجلة المنهل في هذا العدد، والجدير بالذكر أن هذه هي أول مرة أكتب فيها لمجلة طالباً نشر مقالة لي أو كلمة أو خلافها، وأنا أرى أنه ينشر في بعض الجرائد والمجلات مقالات وكلمات لا تصل إلى مستوى ما أكتب، ولكنني على رغم من ذلك أفضل أن أتريث في الكتابة في الصحف حتى ينضج أسلوبي ويرتفع مستوى كتابتي أكثر من الآن كثيرا إذا مد الله في الأجل وما ذلك على الله بعزيز.
أما الأستاذ سعد البواردي فيقول:
أول مشاركة أعثر عليها له كانت بمنجلة اليمامة، ففي العدد الثاني من السنة الثانية الصادر بشهر صفر 1374هـ، الموافق أكتوبر 1954م فقد نشر للبواردي في صفحة (صحيفتي... مجلة في جمل ومقالات في كلمات) تحت عنوان( صخور الحياة- سعد البواردي- الخبر) يقول فيها «الحياة كتل من الصخور ينفجر بينها الماء الزلال الذي يرده أبناء الحياة فمنهم من يناله هنيئاً مريئاً، ومنهم من يناله ممزوجاً بالدماء ومن لا يناله منه إلا التحطيم بين الصخور، وهذه الصخور ألوان وأشكال وهنا نستعرض بعضها.
أما الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك:
فإن أول مقال نشره عام 1373 هـ 1954م وعمره تسعة عشر عاما، وكان وقتها يعمل موظفاً في المحكمة الشرعية بالظهران مع أخيه أحمد رئيس المحكمة.
وعند عثوري على مقاله (أضواء جديدة- بين القديم والجديد) منشوراً بمجلة (صوت البحرين) العدد الخامس من السنة الرابعة لشهر جمادى الأولى عام 1373هـ وقد احتل أربع صفحات (14-18) وقد أصدر الأستاذ محمد القشعمي كتاباً بعنوان (الكتاب السعوديون في مجلة صوت البحرين 69-1373هـ ) صدر لي عام 1431هـ 2010م وبعد اطلاعه على المقال قال إنه فعلاً أول مقال نشر له في حياته.
أما الأستاذ إبراهيم بن عبدالله التركي
فكانت بدايته مع الكتابة ولأول مرة في مجلة (الإشعاع) ففي عددها الخامس لسنتها الثانية لشهر جمادى الأولى 1376هـ الموافق ديسمبر 1956م ينشر له مقال في (منبر الرأي بعنوان (أنقذينا يا وزارة الزراعة)
أما الأستاذ عبدالرحمن السويداء
فكان أول مقال نشر له في مجلة حماة الأمن الصادرة من وزارة الداخلية 1383هـ
إن هذه الاختيارات الموجزة وغيرها الكثير تكشف بوضوح الدور البارز الذي نهضت به المجلات واستكتاب الشباب فيها.
أما القراءة في المجلَّات فلا أعتقد أن مثقَّفًا سعوديًّا لم يمتلئ عقله وذهنه ووقته بالمجلَّات العربيَّة عمومًا والسُّعودية خصوصًا.
ومن هنا نتوقف عند هذا الجانب بأن المجلَّات الثَّقافيَّة كان لها دور بارز في الاحتفاء بالمثقَّف، والتَّشجيع على الكتابة والتَّدوين، ومن هنا نستطيع أن نقول بكل وضوح: إنَّ المجلَّات الثَّقافيَّة كانت المنبر الأكبر والأول للمثقَّف السُّعوديّ.
ثانيًا: دور هذه المجلَّات الثَّقافيَّة في استكتاب العديد من الشَّخصيَّات للكتابة في جوانب سواء كانت فكريَّة أو فلسفيَّة أو اجتماعيَّة أو تاريخيَّة؛ بل إنَّنا نقفز إلى أكثر من ذلك حينما نتحدَّث أنَّ كثير من المجلَّات الثَّقافيَّة كانت مرتعًا خصبًا لإخراج العديد من الكتب وخصوصًا في السِّيَر الذاتيَّة.
وإذا تحدثنا عن هذا الجانب فإنَّنا أمام تدوين الشَّيخ العلَّامة حمد الجاسر -رَحِمَهُ اللهُ- الذي تمَّ استكتابه في المجلَّة العربيَّة على يد الأستاذ حمد القاضي؛ رئيس تحريرها آنذاك، فكتب زاويته «سوانح الذكريات»؛ والتي كانت عبارة عن حلقات من سيرته الذاتيَّة، تمَّ جمعها والعناية بها من قِبل الدُّكتور عبدالرحمن الشبيلي -رَحِمَهُ اللهُ- وأخرجها مركز حمد الجاسر في مجلدين، وهي تعتبر عصارة نادرة وهامَّة جدًّا لأحد الأعلام الكبار في المَملكَة العربيَّة السُّعوديَّة، وهو علَّامة الجزيرة الشَّيخ حمد الجاسر -رَحِمَهُ اللهُ-.
إضافة إلى ما كتبه أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، كذلك في المجلَّة العربيَّة عندما تمَّ استكتابه أيضًا من قِبل رئيس التَّحرير الاستاذ حمد القاضي، فكتب فصولًا من سيرته الذاتيَّة عبر زاويته «التباريح».
وهذا يؤكد العمق الكبير الذي كانت تحظى به المجلَّات، والتي كان لها دور في إخراج العديد من الكتب في هذا الجانب.
ثالثًا: إنَّ المجلَّات الثَّقافيَّة كانت تمثِّل مائدة سهلة وجميلة وميسَّرة للقارئ الذي يريد أن يطَّلع على بعض الكتابات للشَّخصيَّات الثَّقافيَّة العربيَّة والسُّعودية عبر اطِّلاعه على عدد من المجلَّات التي كانت تُنشر في السَّنوات الأربعين الماضية، سواء كان مجلَّة الفيصل أو المجلَّة العربيَّة أو اليمامة أو مجلات الأندية الأدبية. وقبل ذلك المجلَّة الأمّ وهي أولى المجلَّات وهي مجلَّة المنهل، وكذلك الدَّور الكبير الذي اطَّلعت به بعض المجلَّات الكبرى مثل مجلَّة اليمامة التي أيضًا كانت أحد البوابات الكبرى للمثقَّف والقارئ السُّعوديّ.
وحين يأتي الحديث عن مستقبل المجلات الثقافية تتباين الآراء وتتعدد الأقوال ويكثر الجدل والاختلاف عن جدوى ذلك.
ويتلخص هذا في الآتي:
أولاً:- هناك تيار ممانع يهون من حالة الضعف التي تعيشها المجلات اليوم وأن هذا لم يكن طارئاً بل إن المجلات مرت بأزمات عديدة مثل أزمات الورق والطباعة ويتمثل هذا الرأي بأن هناك مجلات توقفت إبان الازدهار الكبير للمجلات وذلك لأسباب أخرى مثل سوء التوزيع وضعف المحتوى وغير ذلك. وهذا التيار المتفائل يطالب باستمرار المجلات الثقافية واستمرارها.
ثانياً: صوت متشائم يطالب بإغلاق هذه المجلات وأنها منابر دعائية وغير جدلية ولا تنتمي لروح العصر بقدر ما تؤكد على الماضوية وهي أقرب إلى الشكل الارشيفي وموضوعاتها مستهلكة.
إن غيابها طبيعي وتلاشيها منتظر إن لم يكن حصل ووقع.
ثالثاً: تيار ثالث يطالب بالواقعية وإن المجلات لن تعود إلى سابق عهدها في ظل السباق المعرفي الهائل الذي تشهده المواقع الإلكترونية.
لكنه يرى ضرورة استمرار المجلات الثقافية وإنها تحمل هوية وتاريخ المثقف السعودي والعربي ويطالب بمزيد من الدعم الحكومي لها كي تحافظ على استمرارها.
وختاماً فإني أطالب بمزيد من العناية الأرشيفية أولا لمحتوى المجلات الثقافية وأنها تمثل تاريخاً ثقافياً هاماً خصوصاً لدارسي المراحل الثقافية التي مرت بها بلادنا.
وكذلك المحافظة على كيانات المجلات ودعمها وتشجيعها ومواكبتها للمتطلبات الواقعية والتقنية وكذلك الموضوعات كي توجد جسراً جديداً مع القارئ الشاب.