سهام القحطاني
* ليست الرقمنة هي رائدة مصطلح «موت الوسيط الثقافي التقليدي» عبر ما هو ورقي وما هو خارج فاعليتها الزمنية،
فكل حقبة زمنية حضارية لها وسائطها الثقافية وحتى الحياتية تتشارك معها في صراع الأزمنة ما بين القديم والجديد، فكل تجديد له وسائطه وكياناتها الرمزية ومظلاتها المصطلحية.
نعيش اليوم إحداثيات حضارية جديدة يقودها علم الرقمنة بوسائطه المختلفة التي أصبحت أسلوب حياة الإنسان في كل مكان ، حتى أننا لم نعد نفرق هل نحن من يهيمن على وسائطه أم هو الذي يهيمن علينا من خلال وسائطه، لكن المؤكد أننا نعيش عصر الرقمنة من أعلى رؤوسنا حتى أخمص أقدامنا.
يُعرف علم الرقمنة أو الرقمية «بعملية التمثيل الرقمي» وهذا تعريف وظيفي مستند على تأثير وسائطه لا مضمونه المعرفي، فتعريف الرقمنة ما زال قيد الإعداد كما ما زال قيد الجدل.
فنحن بكل أنشطتنا الحيوية نتحول مجرد ما نُسرد داخل أي جهاز إلى أرقام تنسخ منا تمثيلات من خلال نظم المعلومات التشابهية التي تحولنا إلى صيغ رقمية، أو تُنتج منا صيغ رقمية مشابهة لنتسلسل في جدولة رقمية تصنيفات رقمية.
ولعل الإغراق في ذلك المدى الرقمي قد يجعلنا يوما نعيش في صراع جديد بين الإنسان البشري والإنسان الرقمي وأيهما يستحق الحياة وأيهما قد حان موته؟!
* إن فكرة التطور الزمني والتداولية الزمانية هي من سنن الله في الكون ليُسهل توزيع فرص التمكين بين الشعوب والأمم، ولذا تسعى كل أمة إلى ابتكار وسائطها المختلفة الثقافية والمعمارية التي قدرها الله لها وهداها إليها ، وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع مختلفة بل واعتبر بعضها حاملا لدلالة العظة والعبرة ومؤشرات على حاصل صراع الأفكار والأفعال والعقائد.
إذن، فكرة الصراع الزمني المعروف بثنائية القديم والجديد هي أصل من أصول السنن الكونية التي قدرها الله في الكون لتتوافق مع القدرات المتنامية للإنسان وارتقائه المستمر وطبيعته العقلية التي منحها الله قوة الإدراك والاكتشاف والابتكار.
* أظن أن فكرة «موت الوسيط التقليدي» بمعادِاته المختلفة الدينية والثقافية والفنية والأدبية أول ما ظهرت كانت عند فلاسفة التنوير، ثم حركة الحداثة التي عرفها جان بودريار بأنها «صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد».
وأظن أننا اليوم نعيش زمناً مقارباً لزمن الحداثة على مستوى الدعوة إلى موت الوسائط الثقافية التقليدية.
وإذا أردنا تقديم معنى موجز للتقليد فهو اتباع الثابت الفكري ووسائطه وتكرارها بالممارسة والنقل والوراثة، هذا التكرار الذي يسلب العقل علانية حقه في الحرية كما يذهب كانط.
وبما أن الحداثة هي الصيغة الحضارية التي تعارض التقليد فهي تعني بالضرورة التجديد المستمر أو الفوضى الأبدية التي قال عنها الشاعر مالارميه « الحداثة تفكير في اللامفكر فيه» التي تناهض كل ثابت، الثابت الذي يعادل التقليد وظيفة لا مسمى.
إن الوسائط هي براهين الغلبة والنصر أو بقول آخر هي الوظائف الحيوية لأي كينونة زمنية، فيموت الكائن الزمني بموت وسائطه ويعلن كائن زمني آخره عن وجوده من خلال وسائطه. لذلك يظل الصراع بين القديم والجديد والإماتة والإحياء من خلال تلك الوسائط.
إن زمن الرقمنة هو مرادف جديد لزمن الحداثة صحيح أن اللغة اختلفت وصفة فلاسفته اختلفت لكن منطق الموت والحياة في صراع القديم والجديد هو واحد باتفاق الغاية واختلاف التوصيفات.
* لو أعدنا الذاكرة إلى عصر التنوير سنجد أن ما تدعو إليه الرقمنة اليوم هي ذات الدعوة التي أسست للصراع بين القديم والحديث. فالصراع مع الوسيط بمختلف هوياته هو صراع أزمنة في المقام الأول، باعتبار أن كل وسيط ثقافي مزمّن الصلاحية قائم حتى يظهر معادل وظيفي له وهذا الظهور يعني نقطة نهاية للوسيط السابق وهذا التخفيف من تراكم المعادِلات يحقق بدوره الحماية من الوصايا المستدامة؛ لأن حتمية التغيير المستمرة هي نقض لفكرة ذاتية المقدس سواء في دلالته البشرية أو غير البشرية التي سعى إليها فلاسفة التنوير وروّجت إليها الحداثة والتي يعرفها المفكر «كانط» بأنها «خروج الإنسان من حالة الوصاية.. والتي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره».
فالوسيط الثقافي بالتقادم يتحول إلى وصاية قيد وسلطة، وتحوله إلى ثابت مما يضفي عليه الرمزية القدسية . ولمنع ذلك التحول ظهرت فكرة الصلاحية المزمنة للوسائط التي تظهر كل حقبة زمانية يتحكم بها المستفيدون من موت الوسائط ورمزياتها.
نعم فموت كل وسيط هو موت كيانات رمزية تمثله، لأن تحول الوسيط إلى مؤشر توجيهي أو معيار تحكم تدخله ضمن نطاق القيد والسلطة أي يُصبح وجه آخر لذاتية المقدس وانتفاء كمالية حرية الفكر، لذلك أسرف فلاسفة التنوير في المناداة بالحرية الكاملة والعقل العلني «بكل زواياه»، وإمكانية ذلك لا تتحقق إلا في التجديد المستمر لقوالب الوسائط الثقافية والتي تتحرك اليوم تحت فضاء ثورة التقنية ومظلاتها، ولو قاربنا اليوم بين دعوة من ينادي بموت الوسيط الورقي كونه قابل لضبطه والتحكم في معايير حركته ودعوة فلاسفة التنوير سنجد أن الحجة لا تكاد تختلف إلا لفظا لا قصدا.
إن دعاة الرقمنة اليوم يرون أن العالم الرقمي يحرر المرء من أي سلطة وقيد ليفتح له باب الحرية وعلانية العقل وباب الفوضى وإسقاط الرقيب وزجه إلى متاهات العتمة كما فعلت الحداثة من قبل.
لقد نادت الحداثة من قبل إلى موت كل تقليدي فكرا وأدبا وفنا لكنها بعد حقب زمنية اكتشفنا أنها فشلت لأن ليس هناك زمنا يفني زمنا فالتاريخ يعيد نفسه.
وها هي الرقمنة اليوم تدعو ذات الدعوة .
إن خطورة هيمنة الموت المرتبطة باستجابة كل الجديد لا تكمن في كون الموت دلالة انقطاع التأثير والفائدة لكل قديم وتفريغ القديم من قيمته وتحويلها إلى «تقييم وظيفي نفعي بحت»، بل تعني أيضاً على المدى البعيد قطع العهد مع أصول المرء وثوابته وزعزعة هويته ودفعه لفوضى المتاهات.
وها هي الرقمنة تعيد الكرة مرة واحدة وهذه المرة لتجريدنا من إنسانيتنا من خلال إلغاء الوسائط الداعمة لتلك الإنسانية وتحويلنا إلى كائنات رقمية معدومة الشعور والانتماء.