د. جاسر الحربش
يتربع في زاوية من الزوايا الأربع اللغوي الذي بضاعته النحو والقواعد والصرف، يعض عليها بالنواجذ فهي زاده ومعاده، ويبحلق بتوجس في الثلاثة القابعين في الزوايا الأخرى. في الزاوية الثانية يقبع الديني الوقور المكتفي ولو ظاهرياً بلغة القرآن والسنة والحديث كوسيلة تعبد للآخرة غير مهموم بأمور الدنيا الفانية، ويبحلق أيضاً بحدة في الثلاثة الآخرين. في الزاوية الثالثة يتربص المتخصص في العلوم الدنيوية الفيزيائية الكيميائية والطبية ويتحرق شوقاً إلى تمكين لغته العربية من التجديد المطلوب لاستيعاب وهضم المصطلحات العلمية والتقنية المنهمرة عليه من كل حدب وصوب ويتفحص الثلاثة الآخرين بإحباط وانكسار. في الزاوية الأخيرة يتربع مستلقياً على قفاه المعولم الذي لا تهمه اللغة العربية ولا أهلها، فهو يريد أن يستمتع بالحياة متشعبطاً بمؤخرة العالم المتطور ويرطن بلغته فقط لا غير.
لكن من الذي يملأ الوسط ؟. هناك الجماهير الغفيرة التي تتخاطب وتتعامل وتتخاصم وتتصالح بكل اللهجات المحلية كأهل باب ما عدا الفصحى، ومعهم الصغار والمراهقون، وهؤلاء لأنهم لا يفهمون لهجات الكبار يتناغمون بخلطات مهجنة اكتسبوها من الخدم والتواصل الاجتماعي والأفلام. جميع هذه الفئات المتزاحمة في الوسط بين الزوايا الأربع سوف تنفجر ضاحكة ساخرة لو خاطبها غريب أو أديب بالعربية الفصحى لأنها تعتبره متقعراً يعيش خارج الحياة.
كما نرى ويجب أن نعترف، لا يوجد بين الزوايا الأربع الممثلة لحاضر اللغة العربية أضلاع تصلها ببعض لتكوين بناء هندسي يستطيع احتواء الجماهير الغفيرة من الكبار والصغار في الوسط.
على مقال لي نشرته الجزيرة الثقافية تحت عنوان «متى تتحرر العربية من أسر النحاة؟» رد علي بعض أساتذة اللغة العربية الكرام، وجاء فيما احتجوا به علي أن اللغات الاغريقية واللاتينية والسنسكريتية الهندية والألمانية لم يضرها أن كان لها نحو وقواعد وصرف، رغم أن هذه حجة ماتت مع تلك اللغات. فأما اللغة الألمانية فقد خسرت بسبب نحوها وصرفها وقواعدها المعقدة أهم موقع حيوي في العالم عندما صوت المنتدبون البرلمانيون في أمريكا لصالح اللغة الإنجليزية ضد الألمانية كلغة اتحادية. آنذاك سأل المستشار الألماني الشهير بسمارك أعضاء حكومته هذا السؤال: ما هو باعتقادكم أسوأ خبر سمعتموه اليوم ؟، وحين كانت أجوبة الأعضاء كلها هموماً محلية رد عليهم بغضب: َأن تتكلم أمريكا اللغة الإنجليزية.
وأما اللغات الثلاث السنسكريتية الهندية والاغريقية واللاتينية فقد انقرضت تحديداً بسبب تعقيد تراكيبها النحوية والصرفية ولم يبق منها سوى ما تجدد وتحور إلى ما نسميه الآن اليونانية والطليانية والإسبانية، أما في الهند فصارت لغة المستعمر الإنجليزية هي اللغة الجامعة.
وأما لغتنا العربية الفصحى ولأنها لم تجد من يجدد فيها مع تطورات العلم والاحتكاك الحضاري فلم يعد يتحدث بها سوى في المواعظ والخطب الدينية وحصص اللغة العربية، وحتى هناك تكون مخلوطة باللهجات المحلية المفهومة للحضور حسب المكان. وصلت الأمور مع التقادم والعجز عن تواصل أضلاع الزوايا إلى أن أصبحت لغة المؤتمرات العلمية والتقنية والسياسية هي الإنجليزية.
وبالمقابل إذا كنت تتحدث اللغة الروسية فتخاطب معك روسي بلهجة دارجة ثم لاحظ أنك لا تفهمه سوف ينتقل فوراً ومهما كان متدني التعليم والثقافة إلى الروسية الفصحى الذي يتحدث بها كل الروس. نفس الموقف سوف يحدث مع الألماني أو الإنجليزي أو الاسكندنافي إن لم تفهم لهجته المحلية يستطيع فوراً التحدث معك بلغته الفصحى الأصلية التي لقنها مبسطة وهضمها في التعليم الأولي.
ليتنا الآن نلقي نظرة وازنة عادلة على أولئك القابعين في زوايا لغتنا العربية الأربع، من الذي منهم يستحق أن يتجاوب معه الآخرون لخدمة بقاء لغتنا العربية حية متجددة للزمان والمكان. إنه من المهم والمفهوم
والمقدر أن يحافظ الديني على لغة القرآن الكريم تعبدية نقية، ويحافظ اللغوي على تنوع وجمال العربية وعلى امتداد جذورها التاريخية، ولكنه ليس أقل أهمية أن يغار الطبيب والمهندس والكيميائي والتقني ويحب لغته الأم وينزعج من قصورها الحالي عن مسايرة العصر وسرعته بالمفردات والمصطلحات والترجمات السهلة المناسبة.
الوحيد الشاذ في الزوايا الأربع هو ذلك المصروف عن لغته المجذوب إلى لغة أخرى يرطن ويتنطع بها، فهو من يجب ردعه. إنني كطبيب مارس تدريس العلوم الطبية لسنوات ومغرم بلغته العربية غرام قيس بليلى، كنت أتألم أشد الألم لاضطراري في كل محاضرة أو لقاء علمي للتحدث بالإنجليزية. يسهل إلقاء اللوم من كل طرف على السلطات المسؤولة، غير أن هذه كما يبدو لم تعثر بعد على المؤهلين المخلصين بين الأطراف الأربعة للتعاون على أداء مهمة التجديد والتبسيط والتشذيب والقصقصة من الزوائد والحواشي البالية، على الأقل لصناعة لغة علمية جاذبية وسهلة الفهم لأجيال المستقبل، وتبقى اللغة التراثية للتعبد والآداب كما هي.
هذا هو واقع الحال والمطلوب، ولكن للأسف يبدو أن كل قابع في زاويته مستمر في التغني على ليلاه، فتحصل أم كل ليلى على العقوق والهرم.
والخاتمة: إن نحن لم نستطع بعد صناعة العلم فليس أقل من مواكبته بلغة وطنية سهلة التراكيب والكتابة والفهم والتخاطب.