قبل أن أجيب دعونا قرَّائي الأعزاء نأخذ جولة قرائية من الفضاء الإلكتروني في شِعْر الهجاء في أغلب العصور:
حيث يقول الشاعر زهير بن أبي سُلمى:
وما أدري وسوف إخال أدري
أقومٌ آل حصنٍ أم نساء
فإن تكن النساء محصنات
فحُق لكل محصنة هداء
فهو هنا يطعن في رجال هذه القبيلة ويشبههم بالنساء اللواتي ينتظرن المهر والأزواج.
وقول النابغة الذبياني:
لعمري وما عمري عليَّ بهين
لقد نطقت بُطلاً عليَّ الأقارع
أقارعُ عوف لا أحاشي غيرها
وجوه قرود تبتغي من تجادع
ومثل هذا الأسلوب الساخر يُلحظ في هجاء الحطيئة للزبرقان بن بدر، إذ قال:
دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فهو أيضاً ينظر إلى الزبرقان - وكان سيدًا في قومه - نظرةً تجعل منه عبداً أو أمة تجلس في البيت ويقوم الرجال على توفير احتياجاتها.
وقال الحطيئة وهو هنا محور ارتكازي يقول:
في هجاء أمه، وزوجته، ونفسه:
جزاك الله شراً من عجوز
ولقّاك العقوقَ من البنينا
تنحَّي فاجلسي عني بعيداً
أراح الله منكِ العالمينا
ألم أُظهر لك البغضاءَ مني
ولكن لا إخالك تعلمينا
أغربالاً إذا استودعتِ سراً
وكانوناً على المتحدثينا
حياتُك ما علمتُ حياةُ سوء
وموتُك قد يسرُّ الصالحينا
وهجا زوجته بقوله:
أطوّفُ ما أطوّف ثم آوي
إلى بيت قعيدتُه لَكاعِ
كما هجا نفسه بقوله:
أرى لي وجهاً شوّه الله خَلقَه
فقُبِّح من وجهٍ وقُبّح حامله
فمالذي يدعو شاعر كالحطيئة أن يصل به الحال أن يهجو نفسه، ولماذا خلّد التاريخ الأدبي ذلك حتى عصرنا هذا، وهل للهجاء فنٌ يبقى، وإن لم يتطرق الشاعرُ إلى هذا الفن هل يخرج من عباءة الشِعْر؟
بضغطة زرٍ على الشيخ «قوقل» تعرف كل القصائد التي سطَّرها الشعراء في هذا الفن كما كتبتُ في المقدمة؛ لكني أيها القارئ الكريم لحبي لك واحترامي لعقلك ورقصي لقراءتك لملامحي طبعًا سأخوض في شِعْر الحطيئة ذلك بطريقة سعلية:
في اعتقادي أن فنَّ الهجاء الأبرز والأميز من باقي الفنون والأغراض الشعرية كالمديح والوصف بل يعدّ لسان القبيلة المدافع عنها في جميع العصور التي مرّت بها الأمة بدءًا من الجاهلي......
وأن أي شاعر لم يكتب في هذا الفن (أقصد الهجاء) فليس بشاعرًا! هناك من يختلف معي فنعم ومرحبًا لكن تبقى وجهة نظري تحتمل المعنيين.
فالحطيئة حين تتبّعت تاريخه في كتب التاريخ الأدبي وجدت شيئاً عجيباً لسؤالٍ دار في رأسي لماذا يصل بشاعر هذا الخدّ من هجاء نفسه؟
ومن هنا انطلقت ووجدت أن الحطيئة تتنازعه مشكلة في نَسَبِه، فمرّة تخبره أُمّه أن أخواله من قبيلة فلان ومرات من قبيلة أخرى، هذا الشعور بالنقص لدى الحطيئة ولَّد لديه انتقام نابع من اضطراب نفسي، مونولوج داخله يسأل من هو أنا وابن مَن؟
وكلما كَبُر في سِنّه ازدادت رغبته في معرفة إجابة لسؤاله، هذا الانهزام في شخصيته النفسية انعكست على تعامله مع الناس ومجتمعه ومع أقرب الأقربين لديه، فأخذ فن الهجاء معه كلما غدا أو راح وأصبحت حِرْفَتَه، العجيب هنا أن الكل تودد له ومنهم من قرّبه إليه وأجلسه في صدر المجلس شاعرًا مادحًا يخاف من حرف هجائه!
ولكن الحطيئة حين يشعر أنه انكسر داخليًا تظهر هذه الشخصية المضطربة وتضعف وتطلب العفو والسماح من الآخرين، وهنا التناقض العجيب والمدهش والممتع لأننا أمام حالة غريبة وفريدة لابد أن تُدّرس بصراحة.
يقول:
ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ
زُغْبَ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ
أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ
فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ
أَنتَ الأمين الذي مِن بَعدِ صاحِبِهِ
أَلقَت إِلَيكَ مَقاليدَ النُّهى البَشَرُ
لَم يوثِروكَ بِها إذ قَدَّموكَ لَها
لَكِن لِأنفسهِم كانَت بِكَ الخِيَرُ
فبالمقارنة بين فن الهجاء وأجادته لحرفه وإبداعه إلا أنه كان أقل قوة من الفنون الأخرى التي تطرّق لها من مثل استعطافه في الأبيات السابقة.
الخطيئة شاعر أخلص لفن الهجاء وأن عقدة النقص ولَّدت له هذه النزعة، نعم كتب في أغلب الأغرض الشعرية لكن لم ولن يتذكَّر مؤرخوه ورواته إلا ما قاله في الهجاء، والشيء المهم هنا أن فن الهجاء ونصوصها تجعلك تفكِّر وتتعاطف، أما الأغراض الأخرى فتجعلك متعاطفًا وبكّاء في الرثاء، وهنا يكمن بروز فن الهجاء وتُعد مِنْ شاعرية الشاعر.
سطر وفاصلة
فن الهجاء منثور في شِعْر «العَرْضة» و«القلطة» الشعبي لكن يكاد يكون مفقودًا في عصرنا الحاضر، في الشِعْر الفصيح خاصّة.
وفاصلتي تكمن في الختام، أن نكتب ونمارس الكتابة لأنها عطر الحروف.
** **
- علي الزهراني (السعلي)