الفقد هو أحد جوانب الحياة التي يمر علينا فيها بأشكاله المتنوعة، وذلك بدءًا من فقدان الطفل الصغير لحلاوته، حتى ينتهي بفقد الإنسان لحياته. ونحن إذ نعيش الفقد في جميع مراحل حياتنا، فلا تكمن مشكلتنا مع الفقد نفسه، ولكنها مع الآلام التي تعقبه. هذه الآلام قد تبقي في دواخلنا ندوبًا يصعب معالجتها.
فقد الموظف لمصدر رزقه من المواجع التي قد لا تؤثر عليه فقط ولكن قد يمتد التأثير على أسرته وأبنائه، وقد تنهار تلك المشاريع البسيطة التي رسمها بالاستقرار في شقة أو بيت يمتلكه، ليرى شريكته تعاضده في تكوين هذه الأسرة، ويراقب أبناءه وهم يجدّون الخطى في مراحل الحياة المختلفة. فقد الوالدين أو أحدهما، حتى وإن كان الفرد مستقلاً بنفسه، لا يوازيه فقد. فهذا الكيان الذي تراه مذ وعيت على الحياة يؤازرك ويؤويك ويبذل نفسه ليسعدك. وقد تعودت على الاكتحال برؤيته في كل يوم. فجأة تجد نفسك بدونه. كذلك فقدان الصحة وفقد الشباب وفقد الأصدقاء يتوالى مع مراحل العمر. فتفقد كثيرًا من ملذات الحياة. وتبحث عمن يسد ولو جزءًا من هذه المفقودات.
الآلام التي تلي الفقد تبدأ صغيرة ثم تكبر بعد الإقرار بهذا المفقود ثم تتناقص تدريجيًا ليتأقلم الفاقد مع غياب مفقوده ليَسْلي من جديد مع متطلبات الحياة الأخرى. وقد لا يتناقص فيصبح ككرة الثلج تنزل من علو جبل يتزايد حجمها فتحطم قلب الفاقد. التغلب على الشلل أو الألم العاطفي هو التحدي الأول والأكثر إلحاحًا. ومواجه هذا الألم يكون شديدًا في البداية، لدرجة أننا قد نكون في حالة صدمة نشعر فيها كما لو كنا في حالة ضبابية، محاصرين في واقع بديل رهيب لا يمكننا الهروب منه. وقد نفقد القدرة على التفكير بشكل مباشر أو حتى مباشرة أبسط الأعمال. الشيء الوحيد الذي يساعد على تقليل الألم هو الوقت. لذلك، فإن التحدي الذي يواجهنا هو إيجاد طرق لمرور تلك الساعات الرهيبة الأولى، فمع الأيام، والأسابيع. وبمجرد أن تبدأ الصدمة الأولية في التلاشي وتنطلق الحقائق من جديد، نواجه التحدي الثاني وهو التكيف مع التغيرات في حياتنا اليومية.
الحزن والخسارة يمكن أن تغير تقريبًا كل جانب من جوانب الروتين اليومي لدينا. قد لا يكون لدينا بعد الآن الزوج الذي اعتدناه كرافد اجتماعي، وفي فقدان الوظيفة نكتشف أنه ليس لدينا مكان نذهب إليه كل صباح، أما الفقد الذي يؤدي إلى الإعاقة فيعني الحاجة إلى إعادة التدريب للقيام بأبسط المهام. وللتعافي من ذلك، نواجه التحدي المتمثل في التوصل إلى تفاهم مع التغييرات التي فرضت علينا. عندها فقط يمكننا أن نبدأ عملية إيجاد طرق جديدة للعيش يمكن أن تكون بديلاً عما فقدنا.
إعادة صياغة الهوية هو أحد التحديات التي تلي الفقد. فيمكن أن يؤثر الحزن والخسارة الكبيران على إحساسنا بالهوية. كيف نحدد من نحن. فنشعر كما لو أن الشخص الذي كنا نتمثله ضائع وأن الشخص الذي يواجهنا في المرآة هو شخص غريب. ربما نكون قد عرّفنا أنفسنا بمهنتنا ولكننا فقدنا وظيفتنا (أو تقاعدنا)، ربما نكون قد عرّفنا أنفسنا كزوجين ولكن فقدنا لأحد الزوجين يغير المعادلة، أو ربما نكون قد عرّفنا أنفسنا بأننا أصحاب لياقة بدنية جيدة ولكننا بعد الإعاقة لأي سبب، نواجه تحدي إعادة النظر وإعادة تعريف من نحن، وكيف نرى أنفسنا، وكيف نريد أن ينظر إلينا الآخرون. علينا أن نعيد بناء هويتنا لنصل إلى السلام مع ذواتنا الجديدة وحياتنا الجديدة.
من التحديات كذلك، إعادة بناء علاقاتنا مع الآخرين. فمن الشائع أن يستجيب الناس للخسائر العميقة بالانسحاب إلى أنفسهم. فقد نحاول التمسك بعزيز متوفى بالتحدث إليه في رؤوسنا طوال اليوم، محاولين إبقائه حيًا وحاضرًا بأذهاننا. وفي بعض الأحيان، قد نتجنب الآخرين، لأنهم يذكروننا بقصد أو دون قصد بالخسارة. كذلك بعد فشلنا في الكلية أو فقدان وظائفنا قد نفقد الاتصال مع زملاء الدراسة وزملاء العمل. ولسوء الحظ، فإن المرض والإعاقة غالباً ما يجعلان الآخرين غير مرتاحين للتعامل مع المرضى ويميلون إلى الانسحاب عنهم. وللعودة لسابق عهدنا، نواجه التحدي المتمثل في إعادة الاتصال بأولئك الذين لا تزال تربطنا بهم علاقة، وكذلك، تشكيل صلات جديدة تتقبل مع الحقائق الجديدة لحالتنا.
ومن جهة أخرى، فتعديل نظم معتقداتنا هو أحد التحديات المهمة كذلك. ومحاولة فهم تجاربنا في الحياة هو محرك إنساني مقنع. وعلى الرغم من أن البعض منا يعبر عن ذلك بوضوح أكبر من الآخرين، فإن لكل منا طريقتنا في فهم كيف تسير الحياة؛ ولكننا لا نملك أي شك في أن هناك طريقة أخرى في فهم تلك الكيفية. حيث تشكل مجموعة من المعتقدات والافتراضات عدسة من خلالها ننظر إلى العالم ومكاننا فيه. ويمكن أن نتحدى الخسارة والحزن عبر هذه الافتراضات الأساسية وتجعلنا نشكك في كل ما كنا نظن أننا نعرفه. فنغرق في الشكوك والأسئلة، وأبسطها وأكثرها إقناعاً هو: لماذا؟ والتحدي الذي يواجهنا هو إيجاد طرق للتوصل إلى فهم سبب حدوث هذا الأمر ونقوم بتعديل نظم معتقداتنا وفقًا لذلك. ولكي نسعد وندفع الحزن، يجب أن نجد في أنفسنا وسيلة لننسب لها معنى للأحداث واكتشاف غرض جديد للدافع من وجودنا.
من أعظم حالات الفقد التي سجلها التاريخ، هي فقد أصحاب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم له. وقد لا نستطيع تصور ذلك لدى الصحابة رضوان الله عليهم. يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصابه بي -أي: بفقدي- فإنها أعظم المصائب» رواه الطبراني وصححه الألباني. اللهم اجبر مصابنا بفقده -صلى الله عليه وسلم. وبفقد كل عزيز.
** **
- أ.د. عبد العزيز سليمان العبودي