«كل الذين وضعوا مصطلح الموت وضعوه قبل أن يبلغوه، من يدري منا إذا كان حياة!». عبارة كتبتها قبل سنوات عدة، فإذا بها تتجلى أمامي وأنا أشاهد فيلم «تسعين دقيقة في النعيم».
هذا الفيلم الذي يجسد قصة حقيقية لذلك الرجل الشاب المسيحي، الذي ودع زوجه في صباح ما وسلك طريق السفر متوجها لمهمة عمل، فإذا بشاحنة تصطدم به وتهشمه وسيارته، وما إن التف حوله الإسعاف إلا تبين لهم وفاته، ما فتئ الجميع إلا بذلك الرجل الذي يركض نحوهم ويهتف قائلا: أخبرني الرب أن الرجل حي، حاولوا تجاهله، لكنه قاومهم بإصرار، حتى جاء للرجل في سيارته وحاول التحقق من بقائه على قيد الحياة، فإذا بالرجل المصاب يرسل إشارة، وتسارع الإسعاف لنجدته، حدث ذلك في تسعين دقيقة.
كانت حالة الرجل الصحية يرثى لها، واستمر علاج قدمه المصابة أشهر تتلوها أشهر، وهو يصارع الألم، ويسأل الرب في يأس: لماذا أريتني ذلك النعيم ثم ها أنت ذا تسحبني منه إلى هذا الألم؟! وبعد أن تحسنت قدمه عقب وقت طويل، فهم إجابة الله على سؤاله، أنه ملزم بإخبار الناس عن النعيم الذي رآه في موته في تسعين دقيقة.
ما شاهده هذا الرجل المسيحي في التسعين دقيقة قبل أن يأتي الرجل المبعوث لإنقاذه؛ هو أفق أبيض ممتد، نور ساطع من الشعاع الأبيض المبين، وفي آخره باب ذهبي عالٍ، وكان وهو يمشي في هذا الأفق الأبيض يرى أكثر الناس الذي كان يعرفهم في حياته وقد ماتوا، وهم مثله في ارتياح وخفة روح وبسمة وضاحة تشع في وجهيهم، متجهين صوب الباب الذهبي، وما إن تعمق بالنعيم في تسعين دقيقة حتى أيقضه الرجل المبعوث.
وهنا تجيء فلسفة تصوري للفضاء بعد الموت، فلا أعرف على أية حجة منطقية وصفنا ذلك الفضاء بالموت، وبناء على وصفنا هذا صرنا نهابه، ونتشبث بالحياة فرارا منه، ثم إني لا أدري على أية حجة منطقية وصفنا الفضاء الذي نعيشه بالحياة، في حين أن الشكوى من تعب الحياة واردة، والمرض والفقر والجوع والحرب كلها في الحياة واردة، فضلا عن آلام النفس الروحية، أليس من الممكن والحالة هذه أن يكون الفضاء ما بعد الموت هو الحياة لا الموت؟
وهذا ما يجعلني أستحضر عبارة أخرى كتبتها قبل حين» الموت؛ هو نافذة يتم العبور منها إلى عدمية الفضاء الأبيض».
فالعدم عادة ما يرتبط في اللالون، وهو ما يكون أسودا كسواد الظلمة التي يغيب فيها حضور الألوان، وهذا ما دعاني لأن أقول (الفضاء الأبيض) فحين كتبتها شعرت أن الموت ينقلنا إلى حالة من العدم، أردت بها التجرد من الشعور والإحساس؛ فهما ما يجلبان للروح أتعابها، عدم، عدم مجرد من وزن المادية، هكذا عدم أبيض تطفو فيه الروح في أفق ممتد عبر الجهات لا يكاد يُرى آخر مداه، تطفو إلى الأعلى في صفاء خالٍ من وزن الإحساس، الذي يثقلها فيسقطها حمله نحو الدرك، نحو الظلام، الذي طفت منه إلى مدى النور الأبيض. فلست أدري لِمَ كل هذه المهابة من فضاء أبيض أطلقنا عليه اسم الموت بأنفسنا فأخذناه عدوا نخافه، ونحن لم نبلغه ولم نعرفه!
** **
سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com