وقفتُ مؤخّرًا على شرح رصين لكتاب مهمّ من كتب علم التصريف هو التكملة لأبي عليّ الفارسيّ (ت377هـ)، واسم هذا الشرح: شرح تكملة أبي عليّ الفارسيّ (المصباح في شرح الإيضاح) (1)، وهو من تصنيف محبّ الدين أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبريّ (ت616هـ)، وقد طبع في ثلاثة مجلّدات خُصِّصَ ثالثُها للفهارس، وهو مطبوعٌ ضمن سلسلة مكتبة الرشد للرسائل الجامعيّة، ورقمه (304)، وقد حقّقتْه الدكتورتان: فوزية بنت دقل العتيبيّ، وحورية بنت مفرّج الجهنيّ، وهذا السفر النفيس طال انتظاره؛ نظرًا لندرة الكتب الصرفيّة المتقدّمة المستقلّة وشروحها مقارنة بكتب النحو وشروحه.
وقد أجادت المحقّقتان العمل في تحقيق هذا الكتاب، وهذا يتّضح جليًّا من تصفّح الكتاب، إذ يظهر الجهد المبذول في إخراج متن الكتاب على صورةٍ قريبةٍ ممّا أراده أبو البقاء العكبري، وفيه جهدٌ دقيقٌ في خدمة نصوص الكتاب في عزو الآراء إلى أصحابها، وفي نسبة الشواهد الصرفيّة إلى مظانّها في القرآن الكريم وقراءاته، وفي دواوين الشعراء المتقدّمين والمجاميع الأدبيّة العامّة، وفي العناية بضبط الأمثلة الصرفيّة ضبطًا دقيقًا.
ويتميّز شرح العكبريّ لتكملة أبي عليّ بمجموعة من الميزات، أهمّها -في نظري-ما يأتي:
الميزة الأولى: اهتمام العكبريّ بالتأصيل المعرفيّ لبعض الأبواب الصرفيّة الذي هو تأسيس أولي يساعد على استيعاب ما ينبني عليه من مسائل صرفيّة مثل قول العكبريّ: «التقسيم على ما ذكر [أي: الفارسيّ]، وينبغي أن نقدّم على ذلك كيفيّة اجتماع الساكنين، وما الداعي إلى تحريكه أو حذف أحدهما، وما الحركة التي تتعيّن لذلك...» (جـ1: ص115)
الميزة الثانية: استقلال شخصيّة العكبريّ العلميّة، فهو في شرحه غير ملتزم بآراء أبي عليّ الفارسيّ الصرفيّة، ومن أمارات ذلك خلافه للفارسيّ في نحو قوله: «فأمّا الهمزة فقد جعلها أبو عليّ في هذا الباب من حروف العلّة، وهي في التحقيق حرفٌ صحيحٌ؛ لأنّها تثبت في الجزم والوقف كقولك: لم يقرأ واقرأ وحروف العلة تحذف في هذين الموضوعين» (جـ1: ص180).
الميزة الثالثة: اهتمام العكبريّ بقضيّة ما يسمّى بلحن العامّة في عصره، وهذا يتّضح في نحو: «قول بعض الناس: فلانٌ فرائضيّ خطأ، بل فَرَضيّ، تردّ إلى الواحد، وهي فريضة ثمّ يُعمَل فيها ما عُمِلَ في حنيفة، وكذا قولهم في النسب إلى الصحُف: صُحُفيّ بضمّ الأوّل خطأ، وإنّما هو صَحَفيّ بفتح الأوّل رُد إلى صحيفة ثمّ نُسِبَ إليه» (جـ1: ص340، ص341).
الميزة الرابعة: الأسلوب التعليميّ بطرح الأسئلة التي قد ترد على ذهن القارئ، وهذا الأسلوب التعليمي مهمّ في لفت نظر المتعلّم لاستقصاء مسائل الأبواب الصرفيّة، وذلك متجلٍّ بأسلوب السؤال بصيغة (فإن قيل: كذا)، وفي الإجابة عنه بصيغة (قيل: كذا) (انظر جـ2: ص846؛ جـ2: ص866؛ جـ2: ص912؛ جـ2: ص964؛ جـ2: ص982).
الميزة الخامسة: الاهتمام بتعليل المسائل التصريفيّة، وهذا ينتظم غالب مسائل موضوعات الكتاب مثل قول العكبريّ: «من حقّ كلّ مختلفي المعنى أن يختلفا في اللفظ؛ لأنّ التساوي اشتراك، والاشتراك ليس بأصل» (جـ2: ص886، ص887)، ومثل: «لم يتعرّض في هذا [أي: الفارسيّ] بذكر الحروف، وعلّة ذلك أنّ الغرض من التصريف معرفة الفرق بين الأصل والزائد والبدل والتغيير، وهذه الأشياء لا توجد في حروف المعاني، وما أشبهها من الأسماء؛ فلذلك لم يذكرها» (جـ2: ص963).
ورغم الجهد العلميّ الرصين الذي بُذِلَ في تحقيق هذا الكتاب إلّا إنّه لا يخلو جهدٌ بشري من شيء من الملحوظات، وقد صادفني بعضها أثناء تصفّح الكتاب، ولعلّ من أبرزها:
ما جاء في مقدّمة المحقّقتين من قولهما: «وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ كلتا الباحثتين قد درستا الكتابَ دراسةً منهجيّةً مفصّلةً تشملُ منهجَ الشارحِ ومصادرَه وشواهدَه وموقفَه من الأصول النحويّةِ والنحويّينَ ومذهبَه النحويِّ...» (جـ1: ص9)، والملحوظة هنا في ضبط لفظ (النحويِّ) بالجرّ، ولعلّ الصواب أن تضبط بالنصب؛ لأنّها نعت منصوب لكلمة (مذهب)، ومن ذلك أيضًا قول المحقّقتين: «حتّى أُثِرَ عنه أنّه لم يكن يجلس بحضره عضد الدولة سوى أربعة منهم أبو عليّ الفارسيّ» (جـ1: ص17)، والملحوظة هنا ورود لفظ (حضره) بالهاء، والصواب أنّها بالتاء المربوطة، ومن ذلك في ضبط متن الكتاب عند قول العكبريّ: «قال الشارح: قال العبدي وعبدُ القاهر جميعًا...» (جـ1: ص430)، والملحوظة هنا ضبط اسم العبديّ بالجرّ، والصواب أن يُضبَط بالرفع (العبدي)؛ لأنّه فاعل مرفوع، ويبدو لي أنّ سبب الوقوع في بعض أخطاء الضبط جاء من المبالغة في ضبط غالب ألفاظ الكتاب، وهي أخطاء قليلة، ومغمورة في بحر حسنات الجهد المبذول في الكتاب.
وقد ورد وهم في اسم عائلة صاحب البحث الموسوم بـ(التبيان لا للعكبريّ ولا لابن عدلان) في قول المحقّقتين: «وقد نش رتْ مجلّة الدراسات اللغويّة مؤخّرًا مقالًا للأستاذ: عبد الرحمن الهويمل، عارض فيه الدكتور مصطفى جواد، في مقال وسمه بـ(التبيان لا للعكبريّ ولا لابن عدلان)، واستدلّ بالأدلّة القاطعة على فساد ما ذهب إليه الدكتور جواد، وأثبت نسبة الكتاب بالأدلّة والنصوص إلى شارحٍ آخرَ هو: زكيّ الدين السعديّ» (جـ1: ص74، ص75)، والملحوظة في هذا النصّ هي الوقوع في وهمٍ في اسم عائلة صاحب المقال المحال إليه، فصاحب المقال هو الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الهليّل، وليس عبد الرحمن الهويمل. وذكر بعض هذه الأخطاء اللغويّة والطباعيّة اليسيرة كان وراءه الحرص على تنبيه المحقّقتين إلى تلافيها في طبعات الكتاب اللاحقة -بإذن الله-
وفي الختام، أقول: إنّ ظهور هذا السفر النفيس مطبوعًا يضيف إضافاتٍ علميّةً وبحثيّةً في مجال الدراسات الصرفيّة، وبخاصّةٍ شروح كتاب التكملة لأبي عليّ الفارسيّ، فلا أعرف شرحًا مطبوعًا للتكملة سوى شرح عبد القاهر الجرجانيّ (ت471هـ) الموسوم بالمقتصد في شرح التكملة بتحقيق الدكتور أحمد الدويش، وهذا الشرح لأبي البقاء العكبريّ الذي يميط اللثام أيضًا عن واحد من أهمّ مصنّفات أبي البقاء العكبريّ ذي النظر الثاقب في الدراسات اللغويّة.
... ... ...
الحواشي:
(1) انظر العكبريّ، عبد الله بن الحسين: شرح تكملة أبي عليّ الفارسيّ المسمّى (المصباح في شرح الإيضاح)، تحقيق: فوزية بنت دقل العتيبيّ وحورية بنت مفرّج الجهنيّ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1442هـ - 2020م.
** **
- د. فهد بن عبد الله الخلف