د. عبدالرحمن بن حمد السعيد
بين فينة وأخرى ينتشر في أوساط المثقفين تعبير يكثر تداوله.. ثم غالباً ما يأتي زمان يقل فيه تداول هذا التعبير ربما لإفراط في تناوله أو لحلول بديل له..
أحد أجمل هذه التعابير وأكثرها رسوخاً وشيوعاً.. كانت عبارة: على موعد مع القدر.. فهذه الدولة أو الشخصية القيادية يكثر وصفها بأنها على موعد مع القدر إما لأنها استطاعت أن تستثمر ظروف فترة زمنية محددة.. أو لأنها وفقت في اتخاذ قرارات جاءت متوافقة مع المرحلة وتعبيراً عن معطياتها وأحوالها.. أو لأنها جمعت بين توفيق الله وحسن التصرف وسمو الغاية والنية..
لماذا هذه المقدمة؟!
الحقيقة أن هذه المقدمة هي تعبير دقيق عن شعوري وأنا أقلب صفحات كتاب لم أسمع به من قبل لسيرة ومسيرة عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل (ابن سعود كما يسميه الكتاب).. طيب الله ثراه...
هذا الكتاب الذي يقع في حدود 600 صفحة ملأ أيامي الثمانية والعشرين في المستشفى التخصصي تحت الرقابة الطبية المشددة.. وخفف كثيراً من وطأة العزلة القاسية جراء الإصابة بكوفيد 19...
من حق القارئ الكريم أن يعرف لماذا أحتفي بهذا الكتاب كل هذا الاحتفاء؟!
بداية أود أن أقول: إنني قرأت كغيري عدداً لابأس به من الكتب التي تناولت سيرة المؤسس العظيم... سواء كان الكاتب عبدالله فيلبي أو أمين الريحاني أو حافظ وهبة أو غيرهم من الذين أثروا مكتباتنا بمعلومات قيمة عن هذا القائد الفذ..
لكن لاحتفائي وفرحتي بهذا الكتاب عدة أسباب لعلي أوجزها فيما يلي:
1- مؤلفا الكتاب (مايكل دارلو وباربرا بري) لم يعرف عنهما وثوق العلاقة مع البطل بل إنهما لم يتشرفا برؤيته... الكاريزمية الهائلة التي كانت تشع من شخصية عبدالعزيز وتترجمها آراؤه وقراراته وإنجازاته ليست جزءًا من حياة أي منهما ولا كان لسمو خلقه وسخاء يده أثر في كتابة هذا السفر.. فهما يكتبان بتجرد ونزاهة عن شخصية لا معرفة لهما بها ولا مصلحة لهما من الكتابة عنها.. الإعجاب الشديد هنا مصدره الوحيد قراءة علمية متأنية وفاحصة لكل أو معظم ما كتب عن عبدالعزيز ومن مصادره الأصلية.. أنه عمل محايد بكل ما تعنيه الكلمة.. فالكتاب ابتدأ كمشروع لفيلم عن الملك عبدالعزيز في عام 1975م لم يقدر له أن يرى النور... (ربما كان لقرار الملك فيصل - رحمه الله - التاريخي بقطع البترول أثر في عدم إتمامه) فالسيدة باربرا بري مترجمة ومؤلفة حصدت العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة ورفيقة درب وشريكة للكاتب المسرحي العظيم صامويل بكيت في عدد من أعماله... يعرف عن الكاتبة والمترجمة الكبيرة أنها انتقلت من لندن إلى باريس لتنغمس في دوائر الفكر والثقافة ولتترجم لعدد من كبار الكتاب الفرنسيين ومنهم ديوراس وأمين معلوف... ولم يعرف عنها الانتساب لدين معين!! أما مايكل دارلو فهو مؤلف ومخرج وثائقي (غالباً مع البي بي سي) حصد العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة ومنها (الإمي Emmy)... وكان يعرف نفسه كما تقول المصادر بأنه يساري تقدمي... وهكذا فمن حيث المزاج والمعتقد والمنهج الفكري فقد كان الكاتبان أبعد ما يكونان عن التعاطف مع شخصية عبدالعزيز ومعتقداته ونهجه... وهنا يكمن جزء كبير من إعجابي وفرحي بهذا المؤلف...
2- الكتاب في مجمله قراءة متعمقة لمعظم إن لم يكن كل ما استطاعت المكتبات والمؤرخين والأرشيف الإنجليزي الغني والمكتب العربي (وما أدراك ما المكتب العربي) الحصول عليه... وهذا ما لم يكن متاحاً لأمثال الريحاني وفيلبي والزركلي..
هنا تفرض الحقائق المجردة نفسها من خلال المقارنة والمقاربة والتمحيص الذي لا يجيده إلا القليل وتفوق فيه كتاب السيرة الإنجليز.. ومن قرأ سير ونستون تشرشل أو الملكة فيكتوريا أو كرومويل يعرف مدى الدقة وأحياناً القسوة المفرطة في الغوص وراء أقل التفاصيل للخروج بصورة متوازنة وقريبة من تفاصيل حياة من تصدروا للكتابة عنه... وهذا ما يلحظه القارئ في هذا السفر الرائع... فهذه المقدرة على نقل القارئ إلى مسرح وزمان صاحب السيرة بكل تفاصيله الدقيقة لا تغيب عن قارئ هذا الكتاب...
3- أشعر رغم تعدد ما كتب عن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أننا بحاجة لكتاب تكتمل فيه وله عناصر التوثيق والمنهجية العلمية الدقيقة وفاءً لدين نحمله جميعاً تجاه مؤسس أكرمه الله بالنصر والتمكين وأكرمنا بأن نعيش تحت ظل وطن له الفضل الأول في بنائه... ليس لقلة في المحاولة وإنما استكمالاً لما كتب وبناءً عليه... وفي هذا فإن حجم التفاصيل التي احتواها الكتاب وجمال التصوير وتوفر عناصر الحيادية والمصداقية والدقة في الطرح تشكل حلقة مهمة في هذا المسعى... وهنا مكمن الإعجاب بهذا الكتاب الذي لا مصلحة لمؤلفيه ولا غاية إلا الحقيقة كما يرونها... فلا العقبات الكبرى التي اعترضت مسيرته - رحمه الله - عندما خرج من الكويت قاصداً استرداد ملك آبائه وأجداده ولا المساحة الجغرافية الهائلة التي استطاع تغطيتها لتوحيد هذه القارة المترامية الأطراف من خلال إمكانات متواضعة جداً ولا النزاعات القبلية التي استطاع إطفاء نيرانها ولا القوى المحلية (كالإخوان) الذين فاقوا ما لديه عدداً وعدة ناهيك عن كيد وتدخل القوى الإقليمية والدولية.. كل هذا لم يفت في عضده... يستطيع المواطن السعودي من خلال قراءة متأنية لهذا الكتاب ولتاريخه أن يفخر بأن عبدالعزيز استطاع تحقيق ما يضاهي بل ربما فاق إنجازات أقرانه من مؤسسي الكيانات العظيمة.. مع فارق كبير... فأدوات عبدالعزيز وإمكاناته والتحديات التي اعترضت مسيرته فاقت كل تحد واجهه أمثاله...
وبعد: فهذه قراءة متواضعة لعمل أمضى مؤلفاه وقتاً طويلاً وبذلا جهداً واضحاً في استجلاء الكثير من جوانب شخصية كانت حقاً على موعد مع القدر... فلم تهن.. ولم تضعف أمام التحديات الجسام... ومنحتنا بعد توفيق الله أرضاً وفضاءً ننعم فيه بأمن ورخاء ندر مثيلهما في عالمنا المعاصر.. لقد وحد عبدالعزيز وطناً تحده عشر دول.. وتمضي الطائرة الساعات الطوال في التنقل بين ربوعه المترامية... وأورثه صفات وخصائص أكسبته منعة وشموخاً لا يضاهى.. ولأن الإحاطة بكل ما ورد في هذا الكتاب أمر لا تسمح به المساحة المتاحة هنا فإنني سأكتفي بالتوقف أمام لمحات من حياة غنية بالشجاعة والصبر والحكمة (وما هو أهم) وهو توفيق الله ورعايته...
ولهذا فإن الجزء الأخير من هذه القراءة سيتركز على اقتطاف مباشر - بين هلالين - مما ورد في الكتاب.. مع التركيز على الجوانب التالية:
- همته - رحمه الله - ونبوغه المبكر.
- تحديات العودة للوطن وجمع الشمل.
- مهارته الاستثنائية في كسب العقول والقلوب.
- العلاقات الصعبة مع الدول العظمى.
- بناء الدولة وتمكينها..
وإلى لقاء قريب بإذن الله..