ظهر كتاب محمد منظور وتنظير النقد العربي عام 1986 ، وارتفع صداه عالياً لأنه لم يكن كتاباً في النقد، وإنما كان كتاباً عن النقد القادم منتصراً إلى الزمن الثقافي العربي بالمغرب؛ ضمن لحظة تاريخية تميزت سياسياً بانكسار اليسار الجديد عالمياً ووطنياً، وتميزت مجتمعياً بتفاقم الأزمة التي طالت كل المستويات والأصعدة؛ وثقافياً بتراجع المنهج الجدلي والمثقفين الديمقراطيين والراديكاليين الحاملين له، لصالح البنيوية التكوينية كإعلان عن عودة المثقفين الإصلاحيين التنويريين إلى الحقل الثقافي مسلحين بالرأسمال الرمزي للحركة الإصلاحية وللمشاريع التي تبلورت في العقد السادس من القرن الماضي عبر جملة من المنابر الثقافية، وبكيفية خاصة آفاق كتاب المغرب ومؤتمراته. وبهذا المعنى، يقع الكتاب في البرزخ بين انكسار ثقافة وانتصار أخرى، وبين الانكسار والانتصار كانت تتراءى فلسفة أنوارية تنويرية، تلقي على المثقف مهام التوعية والتنوير، تحث الإنسان العادي وتوقظه وتُحَرِّضه، وتخيط شعارات الحرية والتحرُّر بإبر الكلمات. ولهذا كان الكتاب مزيجاً من الأفكار فيها عن الأدب والنقد كلام إن حاكمته القراءة بدا سياسياً، وفيها عن السياسة والحقل السياسي حديث إن استكشفه القراء بدا أدباً، وذلك ضمن حركة نظرية تقترب من منجزات كتاب: في الثقافة المصرية، دون أن تماثلها أو تُكرِّرَ أعطابها. ومن ثم، لا غرابة أن يستشهد الكتاب في صفحاته الأولى (ص5 تحديداً) ببعض رموز حركة الديمقراطيين الروس.
وعند محاذاة سياسة النقد ونقد السياسة في الكتاب، يتبدى أن محمد مندور وإشكالية النقد العربي لم يكونا إلا مناسبة لقول شوق نبيل لأزمنة البشارة القادمة.
اتكأ الكتاب على منهج واضح الاسم: البنيوية التكوينية، وسعى إلى تسويد بياضاته وملء ثغراته عبر ترصيعه بمفاهيم الحقل الثقافي والحقل السياسي واللاوعي الثقافي والمثقف العضوي، وهي المفاهيم التي أخذت وضعها المنهجي والنظري في مداخلات عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو والمنظر السياسي الايطالي أنطوان غرامشي. في المتكإ والمهاد يصوغ الكتاب أسئلة على النحو التالي: كيف نفهم كتابات محمد مندور؟ وما الشروح التي يمكن إعطاؤها لتحولاتها الثقافية والسياسية؟ وفي الترصيع، يتجدد سابق الأسئلة ليأخذ الصيغة التالية: «يعتبر مندور جهازاً بارزاً في سماء النقد العربي. كيف السبيل إذاً إلى تقييم أعماله؟ هل بالبحث عن الأجزاء المتخطية للمرحلة التاريخية التي كتب فيها؟ أم بموضعه الرجل وكتاباته داخل الحقل الأدبي المرتبط بدوره بحقل السلطة باعتباره خاضعاً لتكوينات اجتماعية طبقية تلعب الدور الأساسي في تحديد الاتجاهات والاختيارات».
تستعلن هذه الأسئلة بصفتها جواباً عن سؤال أول: «كيف السبيل إلى اختيار المنهج الملائم؟». والحديث بالملاءمة وعدمها لا يمت بصلة إلى معايير الصدق والكذب والحقيقة والزيف والأفضلية والأحقية، وإنما يرتبط بمسألتين جوهريتين: الأولى صيغة التعامل مع المناهج النقدية العربية؛ والثانية، تَهُم الكفاية الإجرائية. وبخصوص المسألة الأولى يقترح محمد برادة «تجنب الفهم الخاضع للمثاقفة عند معظم النقاد العرب الذين يعمدون إلى اختيار مناهجهم وأدواتهم التحليلية من مستودع المناهج الأجنبية بدون أن يتمثلوها تمثلاً نقدياً، وبدون مراعاة خصوصية المعطيات التي يدرسونها(...) إن انعدام الفهم النقدي للثقافة الأجنبية وإهمال الأبعاد القومية، كثيراً ما يؤديان إلى تطبيقات أو تأويلات تطمس كنه العمل الفني المنقود، أو تقود إلى تجاور متنافر لمجموعة من المصطلحات».
ومن الجلي في هذا المقترح أنَّ إشكالية النقد العربي -في شقها المنهجي- تطرح ضمن إشكالية أعم: المثاقفة Acculturation، وأنه يكفي لحل هذه الإشكالية التمثل النقدي لما هو قائم من مناهج في المستودع الثقافي الغربي ومراعاة خصوصيات المعطيات المحلية، بل إن ذلك يكفي لتفسير أزمة النقد والثقافة الوطنية عموماً، ويكفي لتجاوزها كذلك، وهذا على النقيض من التفسيرات الأخرى التي إن اعترفت بالأزمة، التمست أسبابها في انعدام النظرية أو تَعَثُّر التبرجُز أو انخفاض مستوى التعليم. والواقع أن مفهوم المثاقفة أو التثاقف؛ الذي ابتدعه الأمريكي ميلفن سكوفيتش للدلالة على التزاوج الثقافي بين المجتمعات والأمم المختلفة بوصفه جوهر العلاقات الإنسانية، يقوم على عملية تبادلية، وتفاعلية تسوده المشاركة في صياغة الراهن المؤسس للمستقبل.
ويمتلك المفهوم هذا «غواية(...) شديدة في إيحائها بأن لكلٍّ مجتمع نصيبه في هذه الصياغة، وبأن لكل إبداع فرصته للإسهام في بناء عالم واحد تشترك كل الثقافات في تشييده. لكن هذه الغواية خادعة عندما يغطي إيحاؤها حقائق الواقع العالمي، فيحجب طبيعة العلاقات السائدة والمتوقعة بحديث عن تفاعل وتبادل وتزاوج، كواقع قائم أو طموح متاح بينما تستشري جائحة تيار جارف أحادي الاتجاه أسماه سدَنته: العولمة».
يحرص محمد برادة على القول: «إن المثاقفة ليست عقبة أمام الأصالة والنضج، فهي كعنصر موضوعي تاريخي، تحتاج إلى التحليل والاستيعاب والنقد، لتصبح عنصراً مخصِباً عند تركيب ثقافي جديد يستهدف تجاوز ثقافة الاستلاب والتقليد».
والواقع أن المثاقفة تعبير مُهذَّب يفترض تفاعلاً إيجابياً متوازناً نسبياً، وهو ما تُفَنِّده معطيات الواقع العالمي القائمة على القسر والقمع والإلغاء والاستئصال والإلحاق بالقهر وتجديد التبعية والاستتباع على كافة المستويات والأصعدة إلى درجة الإبادة العرقية والثقافية، وهي الإبادة التي أخذت عناوين شتى: بدءًا من المركزية العرقية الأوربية وصولاً إلى العولمة والقرية الكونية، أي السياسة الليبرالية الجديدة. لذلك، يبدو مفهوم المثاقفة، بالرغم من شيوعه غير ملائم، ومن الأفضل التخلي عنه لصالح شيء آخر: قد ندعوه التبعية المتجددة، أو نمط الإنتاج الكولنيالي المتجدد بتجديد رأس المال العالمي، بما فيه رأس المال الرمزي.
ومن المطلوب حقاً في التعامل مع رأس المال هذا تمثله واستيعابه بما يتواءم مع الخصوصيات المحلية، دون ادعاء كونية زائفة وشائهة، لكن المطلوب فوق ذلك تميزه ذلك أن تميز المفاهيم هو شرط وضرورة تخطي الاستلاب والتقليد والاجترار الطافح في سطور شكل من النقد يتوسل بها اللغة لستر الخواء، في حين أن بهاء اللغة لا يعلن إلا عن غُربتها واغترابها في المفاهيم التي تحمله، منفصلة بذلك عن شكل الفكر الذي يستعملها، وعاكسة الأطروحة التي مقتضاها أن شكل الفكر هو شكل اللغة ليصير شكل اللغة هو شكل الفكر، ويبدو هذا القلب مكشوفاً في لغة الخطاب «المتعالم» غير المتوائمة مع شكل الفكر الحامل للخطاب. وليس القصد من هذا الدعوة إلى الانغلاق الشوفيني ومقاطعة الفكر الكوني، وهو ما يستحيل عقلاً ومنطقاً وتاريخاً، إنما القصد مُجدداً تمييز المفاهيم وأدوات إنتاج المعرفة وممارستها بكيفية عملية على معطيات ومواد السياق التاريخي العربي بما يضمن من جهة أولى إنتاجها بلغة مفهومية تعترف بالقارئ العربي وتحترمه، لا بلغة طلسمية منخلعة عن التاريخ، وبما يكفل من جهة ثانية إنتاج ثقافة منغرسة في السلسلة الثقافية المشروطة بالزمن العربي.
أما فيما يهم الملاءمة والكفاية الإجرائيتين، فالبرغم من اقتناع محمد برادة بالمرونة المنهجية للبنيوية التكوينية وبالأهمية التي تمنحها للتاريخ بمعناه العام والمعقد وللجدلية التاريخية، فانه رأى ضرورة ترميمها بأداتين معرفيتين تحذران مباشرة من البناء النظري الذي شيده عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو: الحقل الثقافي والحقل السياسي واللاوعي الثقافي؛ وتندرج عملية الترميم هذه في باب ضرب عصفورين بحجر واحد: ذلك أن مرماه الأول التحرر من نظرية الانعكاس الآلية، وإن أخذت صيغة التماثل طالما أن الإنتاجات الثقافية تركيبات أو هياكل مُشكِّلَة لرؤية الناس للعالم بل أكثر من ذلك تساهم في صنع العالم، وليست مجرد انعكاس آلي للواقع، أو بعبارة لينين «إن الوعي البشري لا يعكس العالم الموضوعي فحسب، وإنما ينتجه كذلك «؛ أما مرماه الثاني فينهض في تفسير ما طرأ من تحولات في مسار محمد مندور النقدي من التأثيرية إلى التحليلية فإلى الأديولوجية، ومن تم أخذ سؤال التفسير القوام التالي: «كيف تمت هذه التحولات؟ وما العوامل المحددة في الحقل الثقافي التي عاش فيه محمد مندور؟ وهل يتعلق الأمر بتطور مُراد تسعى إليه عن قصد أم أنه راجع إلى علائق موضوعية كانت توجه إلى الحقل السياسي والثقافي».
يومئ الحديث بمفهوم الحقل إلى تقسيم المجتمع إلى جملة مقولات ذات استقلالية نسبية وخصوصية محددة بهدف تيسير الدراسة وجعلها أكثر دقة. وقد شيد بورديو مفهوم الحقل بإعادة التفكير في نظرية ماكس فيبر ضمن منظور مادي جدلي، وبَيَّن وجود حقل ثقافي وفاعلين اجتماعيين متنافسين داخله، يستعملون وسائل متنوعة ومتعددة على نمط الشركات الاقتصادية، من أجل إنتاج السلع الثقافية الرمزية وتسويغها وتسويقها؛ ومن تم: تَحدَد هدف بورديو في تأسيس علم اقتصاد سياسي للسلع الرمزية؛ أما الحديث بمفهوم اللاوعي الثقافي، فينصرف للدلالة على مجموع منظومات وأنساق التفكير الفاعلة في الكاتب والمحددة لتصوراته وأدواته التحليلية ووسائله في التعبير والإبلاغ. وإذا كان هذا المجموع يُشكل مستودعاً للاستمداد والاستيحاء، فإن آثاره تعثر على ما يفسرها التحليل الملموس والنسقي للحقل الثقافي، وإضاءة ما هو فيه مشترك، واستكشاف ماهو منه خاص بكل فاعل ومنتج داخل هذا الحقل. ومن اللافت أن هذه الأدوات يقيم معها محمد برادة علاقة براغماتية، إذ يستعملها على قدر الحاجة إليها، وبقدر إفادتها في تقريب المسافة بين الإنتاجات الأدبية والنقدية وخطاب الثقافة.
وبناء على ما تقدم، واستيحاء لا جواب أدلى به محمد مندور لأحد النقاد وليس اعتماداً على قراءة داخلية ومحايثة لنتاجه النقدي؛ قام محمد برادة بتحقيب مساره النقدي إلى ثلاث مراحل: التأثيرية فالتحليلية فالاديولوجية؛ وهذا التحقيب نفسه هو العمدة والمعتمد في تفصيل الكتاب وتبويبه.
في الفصل الأول «مندور والمثاقفة أو المرحلة التأثيرية»؛ لا يهتم الكتاب برسم الصورة الشخصية (بورتريه) لمحمد مندور وبسيرته اللَّدُنية» اقتناعاً بأن كل كتابة هي في جوهرها نتاج جهد وذكاء، وتستجيب لشروط مادية قابلة للتحليل» واعتباراً لتهافت وتقليدية أغلب السير المكتوبة بالعربية عن الشعراء والكتاب والأدباء والقادة، والتي تعلي وعي الذات وتجعله العامل المحدِّد والحاسم، في حين تبخس مقام التاريخ وقيمته، وتقف بالعلائق الاقتصادية والمجتمعية في حدود الإطار التزييني، وإنما ينشغل الكتاب باستكشاف مسار تكوين مندور وإضاءة مسيرة تعلمه واستخلاص العوامل الفاعلة والحاسمة في ذلك: الثقافة العربية والثقافة الأوربية. وذلك أن مندور استدخل الانشغال بالتراث العربي الإسلامي وتَشَرَّبَهُ في سنين تعلمه الأولى وتكوينه الجامعي، وشكلت مداخلته في هذا المضمار، وخاصة ما كتبه الشاعر ذي الرمة مثار إعجاب طه حسين الذي أوعز إليه بالرحيل إلى فرنسا لمتابعة دراسته في الآداب وتحضير دكتوراه الدولة بعد أن أنهى تكوينه الحقوقي غير أن دكتوراه الدولة في الآداب لم يقيض لها الاكتمال والإنجاز أمام تعدد وتنوع مشاغل مندور السياسية والعلمية والفنية أثناء إقامته بباريس في الفترة الممتدة بين 1930 و1939 والتي شكلت من جهة أولى فجر الحرب الامبريالية الثانية، ومن جهة ثانية مَلقى تيارات تجديدية في ساحات الشعر والرواية والنقد الأدبي مثلما تشهد بذلك وعليه أسماء سطيفان ملارميه، بول فاليري، أندري بريتون، لوي أراغون، إرنست همنغواي، لوي فردنن سيلين، أندريه مالرو، غاستون باشلار...؛ وشكلت من جهة ثالثة لحظة حاسمة في تكوين رأسمال مندور الرمزي ورصيده المعرفي والمنهجي، وأمام خصوبة الحقل الثقافي الفرنسي وغزارة تياراته وتوجهاته وتنافس الفاعلين فيه.
وبحثاً عن توازن عَصِيِّ بين الانبهار والشلل، انحاز مندور إلى زاوية «الوقار الأكاديمي» جامعة السوربون. واختار كوة المناهج «الرزينة»: تحليل النصوص تحليلاً فيلولوجيا، وانخرط تحت لواء «التاريخ الوضعي»: كوستاف لانسون والمفكر الإنسانوي: جورج دوهاميل. فقد ترجم الأول «منهج البحث في اللغة والأدب» وللثاني «دفاع عن الأدب». وظهرت آثار ذلك في مقالات هذه المرحلة التي نشرت على أعمدة المنابر الثقافية، وأعيد جمعها بين دفتي كتاب: في الميزان الجديد. وإذا كان المنهج اللغوي في صيغته الوضعية قد شكل الخيط الأحمر أو اللازمة الناظمين لهذه المقالات، فقد شكل كذلك همزة الوصل بين محمد مندور وعبدالقاهر الجرجاني، وتحكم كذلك بشبكة التحليل في سطور الأطروحة التي دافع عنها بجامعة القاهرة سنة 1943 تحت عنوان: تيارات النقد العربي في القرن الرابع الهجري، والتي ستنشر بعد ذلك تحت عنوان: النقد المنهجي عند العرب. وبرغم انشغالاته النقدية الأدبية الأكاديمية في هذه المرحلة، فقد اهتم بالمسألة المجتمعية بوحي من الأفكار الديمقراطية الليبرالية في أوروبا، وبطريقة تقترب من أطروحات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وتتطابق مع وجهة نظر حزب الوفد الحاكم آنذاك. وفي هذا السياق تندرج كتاباته المدافعة عن حق مصر في إلغاء المحاكم المختلطة، والباحثة عن مخرج اشتراكي ديمقراطي لأزمة مصر السياسية.
وبرغم حضور مفاهيم المثاقفة واللاوعي الثقافي، فإن برادة يشتغل في إضاءة هذه الحقبة بمفاهيم الأثر والتأثير والانعكاس، التي تثير مشاكل الأصالة والتقليد والوسيط من حيث طبيعة ووظيفة ومسألة الإنتاج الفكري والنقدي، علاوة على أنها تصل إلى مأزقها النظري والمنهجي والإشكالي عندما تجابه سؤال من نوع: متى وأين وكيف يصير إنتاج فكري نقدي تجلياً وانعكاساً لآثار الثقافة العربية ثم الثقافة الغربية الأكاديمية الإنسية السائدة في الثلاثينيات؟ لماذا عَبرت هذه الآثار إلى الحقل الثقافي العربي في مصر الأربعينيات عن طريق محمد مندور تحديداً؟
إلا أن هذه الأسئلة سرعان ما تتراجع في ما يلي من فصول وخاصة ما تعلق منها بالحقل الثقافي في مصر من 1936 إلى 1952 .
ففي مقاربته لهذا الحقل، يصدر محمد برادة عن تصور مقتضاه تبعية الأدبي- الثقافي للسياسي، ويقرأ في ضوء هذا التصور الإنتاج الأدبي العربي في مصر منذ مطلع القرن العشرين مؤكداً حضور آثار مصطفى كامل الوطني الرومانسي، وأحمد لطفي السيد العقلاني الأرسطي، في المحاولات الروائية الأولى؛ وحضور أصداء ثورة 1919 في دعوات التجديد التي حمل ألويتها طه حسين وعباس محمود العقاد ورفاقه في الديوان؛ وعلاوة على بصمات الحقل السياسي في الحقل الثقافي، لا يمكن التغاضي عن الدور الذي لعبته الجامعة المصرية في هذه الحقبة، قبل أن تتحول بعد 1952 إلى مؤسسة لإضفاء الشرعية والمشروعية. وفي ضوء متابعة الحقل الثقافي والفاعلين فيه، مَيَّز برادة بين النقاد الجامعيين والأدباء الملتزمين والكتاب العموميين مقتفياً في ذلك آثار التصنيف الذي اقترحه بيير بورديو ضمن دراسته عن المثقفين الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر، بكيفية تشي بالاستنساخ وتومئ إلى شكل من النظر يجعل النظرية مرجعاً للواقع وهو الشكل الذي ساد ضمن التيارات الماركسية والماركسية اللينينية في العقد السابع من القرن العشرين، من أصوار العراق إلى البدائل غير الناجزة بالمغرب. وبناء على ما تقدم، يؤطر محمد مندور ضمن فئة: المثق العضوي؛ باعتبار انتمائه لحزب الوفد وانخراطه في الصراعات السياسية- الأديولوجية للمرحلة، مع ملاحظة أن العضوية في هذه الحقبة لم تكن - حسب ما ذهب إليه جاك بيرك- انتماء لطبقة واحدة وإنما لمجموعة من الفئات والشرائح المجتمعة في «وفد» واحد. ومن رأي برادة أن إيمان مندور بضرورة «التنظير والتفكير المذهبي» يشكل أحد آثار المرحلة الممتدة بين 1944 و1952 والتي استحوذت فيها عليه المشاغل والاهتمامات السياسية.
وضمن سطور الفصل الثالث، يقارب الكاتب مرحلة النقد التحليلي عند مندور (1952- 1956) وهي المرحلة التي توزع فيها بين الناقد والسياسي، وحاول أن يستمر بوظيفته السياسية بعد صعود جمال عبدالناصر إلى السلطة، فأصدر كتاب: الديمقراطية السياسية (1952) في الدفاع عن التعددية الحزبية غير أن الناصرية، كسلطة وأيديولوجية، قطعت الطريق أمام المثقفين بالقمع والاستعمال وإلغاء الأحزاب بتوليها هي نفسها رفع الشعارات التقدمية والديمقراطية والاشتراكية. ومن تم، نقل محمد مندور نشاطه من مجال السياسة إلى ساحات الأدب المتعددة؛ إذ كتب في مجال الشعر: إبراهيم المازني (1954)، خليل مطران (1954)، محاضرات عن إسماعيل صبري (1956)، ولي الدين يكن (1956): الشعر المصري بعد شوقي (بدون تاريخ)؛ وكتب في مجال المسرح: مسرحيات شوقي (1954)، محاضرات عن مسرحيات عزيز أباظة (1958)، المسرح النثري (بدون تاريخ)، مسرح توفيق الحكيم (1961)، المسرح (1963)؛ يهيمن في هذه الكتابات المنهج التحليلي الذي يُعنى بدراسة الأدب من الداخل وتحليل علاقاته المنطقية، وهو ما يستعلن كاستمرار لفقه النصوص التي توكأ عليه محمد مندور في لحظة سابقة من مشروعه النقدي. وتحضر ضمن هذا الإطار المنهجي بعض التوسيمات والإشارات المرتبطة بعلاقة الأدب بالواقع وبوظيفته ونفعيته والتي تدرج - وإن بشكل هامشي- العوامل المجتمعية والسياسية، وذلك نتيجة اللقاء مع أفكار الواقعية الاشتراكية بعد زيادة الاتحاد السوفييتي ورومانيا عام 1956 ، ونتيجة حضور الموقف السياسي في الخطاب النقدي.
وبهذا المعنى، فإن كتابات مندور لم تكن هواية أو أداءً وظيفياً أكاديمياً أو ترفاً نظرياً -فكرياً، وإن اتسم معظمها بطابع الدروس والمحاضرات، بل كانت حِجاجاً عن موقف سياسي ودفاعاً عن جملة قضايا تشكل مضمونه وأفقه، أي أن الكتابة النقدية ملتزمة ومنخرطة بقوة في الصراع السياسي- الأديولوجي بصفته صراعاً طبقياً معنى ومبنى. ولم تكن الكتابة النقدية المجال الوحيد لممارسة الصراع هذا، وإنما توسل منابر أخرى كانت ولا تزال تعتبر الموقع المفضل لخوض الصراعات الأديولوجية: الجامعة والصحافة.
وانطلاقاً من السابق، يمكن استجلاء أمرين: يقول الأمر الأول إن فكر الاستنارة والتنوير قبل الانقلاب الناصري وبعده كان مطالباً بالعثور على أشكال تجلياته الملائمة وبلقاء الحقل الذي يَقْبَل به ويمنحه وسائل البقاء والاستمرار. وتماماً مثلما يحدث في جميع الأزمنة المستبدة، فإن فكر التنوير والتحرر لجأ إلى حقل الآداب. وتَحصَّن بقلاعه وخنادقه المتواضعة، «واتخذ من صفحات الشعر والمسرح موقعاً للكشف والتحريض والإنارة، وامتد الموقع وارتفع صوت الشعر والمسرح إلى أن صار حقل الأدب صوت زمانه الأصيل، وملاذ كل فكر يدافع عن الحرية والديمقراطية والتعددية الحزبية. ويمكن العثور في هذا المسلك على شيء من تقاليد أزمنة التنوير، أو على أشياء من تراث الديمقراطيين الروس».
أما الأمر الثاني، فهو شديد الارتباط بالأول، ويُفسر سبب اختيار محمد برادة لمحمد مندور كموضوع للدراسة في مرحلة دقيقة من تاريخنا السياسي والثقافي. وذلك أن الهدف المعلن قائم في المساهمة في دراسة إشكالات النقد العربي، في حين أن الغاية المضمرة تتحدد في الإسهام في دراسة الوضع العربي برمته واستكشاف مكامن العطب فيه، ومعيقات نموه وتحرره. ومن ثم يصبح نقد النقد نهجاً تنويرياً يعود إلى السياسة «فكأن النقد زمن الاستبداد، يُغَيِّب السياسة في الأدب، وربما تشتد به الحماسة فيعكس العلاقات، ويُغَيب الأدب في السياسة، وفي الحالتين فإن النقد القائم في زمن مقهور، لا يضل الطريق، لأنه يمسك ما هو جوهري، ويدرك أن تحقق العمل الأدبي يقوم في ارتباط بالتاريخ، وفي قدرته على الفعل في العلاقات الاجتماعية الأخرى».
في الفصل الرابع والأخير: «النقد الأيديولوجي والتنظير» يستكشف الكتاب مستويات تعامل محمد مندور مع أزمة النقد العربي، ويلقي الضوء على تطور مفهومي الأدب والنقد في كتاباته، بدءًا من في الميزان الجديد، وصولاً إلى المنهج الأيديولوجي في النقد.
وفي هذا المقام، يشدد الكتاب على ابتعاد مفهوم الأدب عن المنظور العربي التقليدي واقترابه من التصور الإنساني وإن بكيفية تلفيقية، منذ اللحظة التي تم فيها النظر إلى الأدب بصفته فناً لغوياً وصياغة تتحدد بنيتها لا بوظيفتها، وبجماليتها، لا بنفعيتها؛ إلى اللحظة التي وقع فيها التوكيد على أن «الأدب صياغة فنية لتجربة بشرية» حيث تم وصل الأدب بالحياة والحديث عن وظيفة الأدب والتزامه. يقول مندور في كتابه الأدب ومذاهبه:
لم يعد الأدب ينمو ويتطور بطريقة تلقائية تمليها ملابسات الحياة وحاجات الفرد والمجتمع، بل تدخل الفكر الفلسفي وأخذ يستنبط للأدب والفن غايات جديدة، كما أن جماهير عديدة من البشر أصبحت لا تقنع من الأدب بالمتعة الجمالية أو بعملية الترويح أو التنفيس عن مكبوتات النفس، بل تطلب منه عملاً إيجابياً، وإيثاراً وتضحية بالذات في سبيل الغير من ملايين الناس الغارقين في محن الحياة وشقائها. وربما كان هذا هو السبب الأساسي في طغيان الدعوة إلى الأدب الملتزم في الوقت الحاضر، وهو الأدب الذي يحارب الذاتية والانعزالية والهرب، ويدعو الأديب أن يواجه مشاكل عصره ومحن الناس من حوله، لا ليسجلها أو يعرضها فحسب، بل ليلتزم إزاءها برأي، ويتحمل مسؤولية هذا الرأي أمام الجميع، مهما عرضته تلك المسؤولية إلى الأخطار أو أنزلت به من مشاق».
والواقع أن الحديث عن علاقة الأدب بالحياة، وعن غاية الأدب ووظيفته عامٌّ محدود وينقصه التحديد، علاوة على هامشيته ضمن إطار منهجي تشكل الإستراتيجية التحليلية مهيمنته. ومن رأي برادة أن التطور في مفهوم الأدب استتبع تطوراً على صعيد مفهوم النقد وشبكات التحليل عبر ثلاث لحظات: اللحظة الأولى تعتبر الأدب «فناً لغوياً» لا يحكم عليه من حيث الخير والشر، لا من حيث الخطأ والصواب، وإنما يُحكم عليه من حيث الجمال والقُبح، وترتب على ذلك أن النقد ليس علماً ولا يمكنه أن يصير كذلك، وتحدد مجاله في التمييز بين القبيح والجميل، والمفاضلة بين الأعمال الأدبية والمقارنة بين سيماتها ومميزاتها. وتصوغ ذلك ضمن أطروحة قريبة من نظرية الفن للفن وتشترك في الكثير من القواسم مع أطروحات غوستاف لانسون. يقول مندور: «أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه مَلَكَةٌ تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية. والنقد ليس علماً لا يمكنه أن يكون علماً، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم».
أما اللحظة الثانية؛ فتتكئ على المنهج الأرسطي في التحليل المبني على إضاءة بنية العمل الأدبي واستكشاف ثغراته انطلاقاً من تاريخ الأعمال الأدبية، لا في ارتباطه بالواقع المجتمعي، وتقوم اللحظة الثالثة على إعمال المنهج الأيديولوجي الذي اعتبره محمد برادة «المحور الجوهري لمجموع أعمال محمد مندور(...) والعلامة البارزة في الاهتمامات السائدة عند جيل يبحث عن أيديولوجية منقذة»؛ والواقع أن مهيمنة كتابات مندور تقوم في المنهج التحليلي المدعوم بفلسفية وصفية تؤمن بالتطور. ومن ثم، يبقى الحديث عن علائق الأدب بالواقع أحد تمظهرات حضور الموقف السياسي المؤمن بالثورة المجتمعية في الخطاب النقدي، وليست عائدة إلى المنهج النظري في الأدب، وهو المنهج الذي ظل يراوح في حدود الأفق التحليلي الباحث عن علاقات الأدب الداخلية.
ويمكن القول إجمالاً، وبصرف النظر عن سابق الملاحظات العابرة، إن محمد برادة استطاع «استخلاص الكثير من البنيات والآليات التي أطرت مسار الإنتاج الفكري والنقدي عند مندور، فهو من وجه نظر بنيوية تكوينية قد أنجزت عملية «تفسير» رائعة، ولكن لم يعاود وينطلق أساساً من عملية «الفهم» التي هي مرحلة إجرائية أساسية في المنهج، أي من التحليل الداخلي للإنتاج، واستخلاص بنياته الدالة منه وحده أولاً. وعليه، تجوز الملاحظة بأن محمد برادة قد حاول تطعيم البنيوية التكوينية بمفاهيم أيديولوجية وسوسيولوجية مثل الأدلوجة والمثاقفة والوعي الطبقي والمثقف العضوي وغيرها، كما تجدر الإشارة إلى ريادته في تطبيق هذا المنهج وفي تمهيد الطريق للمحاولات التي تَلتْه في ذلك».
** **
خولة الزلزولي - باحثة بسلك الدكتوراه - كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس -الرباط-