د.بكري معتوق عساس
قبلَ اثنتين وتسعين سنةً وقفَ أميرُ الشعراءِ أحمد شوقي في حفلٍ مَهِيبٍ، أقامتْه مدرسةُ المعلمين العُليا، وهي مدرسةٌ كانتْ تخرِّجُ المعلّمين وتُعِدُّهم لأداءِ رسالتِهِم. وَقَفَ شوقي يومَها وأنشدَ قصيدتَهُ الذَّائعةَ:
قُم للمعلمِ وفِّهِ التَّبْجِيلا
كادَ المعلِّمُ أنْ يكونَ رسولا
سُبحانَك اللهمَّ خيرَ مُعلِّمٍ
علَّمْتَ بالقلَمِ القُرونَ الأولى
أرسلتَ بالتوراةِ موسى هادياً
وابنَ البتولِ فعلَّمَ الإنجيلا
وفَجَرْتَ يَنبوعَ البيانِ محمداً
فسَقى الحديثَ وناولَ التنزيلا
وبعد سَرْدِ هذهِ السلسلةِ النورانيةِ من المعلمين الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم ذكرَ شوقي معنىً مهماً وثيقَ الصلةِ بهذا المقامِ التعليميِّ الكبيرِ.
قال رحمه الله:
وإذا المعلّمُ لم يكنْ عَدْلاً مَشَى
رُوحُ العَدالةِ في الشَّبَابِ ضَئيلا
وإذا المعلِّمُ ساءَ لحظَ بصيرةٍ
جاءتْ على يدِهِ البصائرُ حُوْلا!
إنَّ الزاويةَ التي يُشيرُ إليها أميرُ الشعراءِ هنا هي زاويةُ (التأثيرِ)، التأثيرُ الذي يتركُهُ المعلمُ في الأجيالِ، فالمعلِّمُ لا يمكنُ أنْ يكونَ بلا تأثير! فهو إنْ لم يؤثِّرْ في طَلَبتِهِ إيجاباً فسيُؤَثِّرُ فيهم سَلْباً؛ فيجيئون حُولَ البصائرِ، فاقدينَ روحِ العَدالةِ!
وقد تفكرتُ يوماً.. لماذا اشتُقَّ اسمُ المعلِّمِ مِنْ (علَّمَ) لا مِنْ (أَعْلَمَ)؟ مع أنَّ في كليهما معنى إيصالِ المعلومةِ؟!
لماذا قيل: مُعلِّم، ولم يُقلْ: مُعْلِم؟
ووجدتُ الجوابَ في كلمةٍ نفيسةٍ للأصفهانيِّ قال فيها: «الإعلام يختصُّ بما كانَ بإخبارٍ سريعٍ، والتعليمُ يَخْتَصُّ بما يكونُ بتَكريرٍ وتكثيرٍ حتى يحصُلَ منه أثرٌ في نفسِ المتعَلِّمِ».
لاحظْ.. «حتى يَحْصُلَ منه أثرٌ»!
إنّه التأثيرُ مرةً أخرى.. التأثيرُ الذي يُعدُّ سمةً لازمةً للمعلمِ، الذي نجدُ الآن أنَّهُ كذلك معنىً خفيٌّ من معاني اسمِهِ.
ويَشْهَدُ لهذه الفكرةِ قولُهم: علَّمَ الفارسُ عمامتَهُ أيْ: وضَعَ عليها علامةً وأثراً.
فالتعليمُ إذنْ مَدَارُهُ على التأثيرِ، و(المعلِّمُ) لا ينفكُّ عن التأثيرِ، إنّه يضعُ بَصمتَهُ على الأجيالِ تِلْوَ الأجيالِ، يَتْرُكُ علامةً في قلبِ وروحِ كلِّ طالبٍ مرَّ من بين يديهِ. وكم في ذكرياتِ كلِّ واحدٍ منّا من معلِّمينَ أسهموا في صياغتِهِ! وكم في ذكرياتِنا - ربَّما - من مُعلِّمينَ تركوا آثاراً سيئةً!
ومِنْ هنا كانتِ العنايةُ بالمعلّمِ تأهيلاً وتطويراً وتدريباً وتحسيناً للأداءِ واجباً من أعظمِ الواجباتِ، ودَيناً للأمةِ على عنقِ كلِّ من وليَ من أمرِ التعليم شيئاً.
حين ندرِّبُ معلماً كفؤاً فإنَّنا في الحقيقةِ ندرِّبُ جيلاً، ونُنشئُ رعيلاً، ونهبُ الوطنَ كنوزاً بشريةً تحملُ المشعلَ إلى المستقبلِ.
ومن هنا كانتِ الدولُ الحضاريةُ كلُّها تنظرُ إلى (تطوير) المعلمِ نظرةَ اهتمامٍ. وقد ذُكِر أن شرائحَ من القضاةِ والأطباء والمهندسين طالبوا المستشارة الألمانية برفعِ رواتبهم لتكون مساويةً لرواتب المعلمين، فقالت لهم: كيف أساويكم بمن علموكم؟
هكذا إذن يُشكِّلُ (تدريب المعلم) و(العنايةُ به) محور ارتكازٍ لدى كلِّ بلادٍ تنشُدُ المستقبل المشرقَ.