د. عبدالحق عزوزي
لم تستطع مادة السياسات العمومية تواجدها في مجال العلوم التي تدرس في الجامعات والمعاهد العليا على شاكلة العلاقات الدولية والسوسيولوجيا السياسية إلا في العقود الأخيرة من القرن الواحد والعشرين، وبالأخص في الجامعات الفرنكفونية؛ إذ ظلت هاته الأخيرة رهينة التقاليد الفكرية الموروثة ابتداء من هيغل إلى ماكس فيبر مرورا بماركس الذين ركزوا على الدولة، بمعنى أنه تم التنصيص على كيان يستحوذ على المجتمع، يحدده ويساهم في توجيهه، فظل العديد من علماء الجامعات الفرنكفونية في الفضاء المتوسطي وعلى رأسها فرنسا رهينة التوجهات والثقافات القانونية والفلسفية للدولة، على خلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي عرفت التأصيل للمفهوم منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث كان لطغيان مبدأ «government» الفضل في تطور علم السياسات العمومية في الولايات المتحدة الأمريكية.
ونتذكر جميع أنه عندما أرادت حكومة بوش الابن التدخل في العراق سنة 2003، رفضت جل الدول الغربية ذلك باسم الشرعية القانونية والدولية وباسم الفلسفة التي يجب أن تصطف فيها الدول في هجوم عسكري ذي أبعاد مجهولة على دولة ذات سيادة. ديك تشيني، دونالد رامسفيلد وكولن باول، كانوا جميعاً يقومون برحلات مكوكية إلى العواصم الأوروبية (عدا بريطانيا التي كانت مؤيدة ومتحالفة مع البيت الأبيض) لإقناع رؤسائها ولكن دون جدوى، ونتذكر الخطاب الشهير لكولن باول في قبة الأمم المتحدة وهو يحمل قنينة صغيرة يقول فيها للعالم بأسره لو أنه قام بتفجير هاته القنينة لتبخرت مساحات من الأرض في رمشة عين، وهو ما يستطيع صدام فعله لتوفره على أسلحة الدمار الشامل، وهو ما أنكره عليه وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبين في نفس الاجتماع لعدم وجود أي حجة، ورفضت بلاده تدخلا عسكريا خارج المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز استعمال القوة العسكرية الدولية في حال الهجوم على حدود دولة ذات سيادة من غير حق، أو كونها تشكل خطرا على المنظومة الدولية من خلال امتلاكها مثلا لأسلحة الدمار الشامل... هذا البون الشاسع بين الاتجاه الفقهي القانوني الفلسفي الصرف - والاتجاه الاستراتيجي، أو بعبارة أخرى بين الحفاظ على الشرعية القانونية الدولية وبين القضاء على نظام صدام وأهله، مزق في تلك الفترة أبجديات التفاهم حول محددات النظام العالمي الذي قادته وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى درجة أن ديك تشيني وصف أوروبا الغربية بأوروبا العجوز خلافا لدول أوروبا الشرقية التي كانت مؤيدة للتدخل العسكري... وتشيني من خلال كلامه هذا كان يعني مما يعنيه خطأ غلبة الخزعبلات القانونية والفلسفية الفرنسية والغربية على أولويات المرحلة في العلاقات الدولية التي تفرض الحركية والواقعية الاستراتيجية اللاقانونية بغطاء شبه قانوني وشبه مرضي... فوقع التدخل العسكري الأمريكي-البريطاني رغما عن الرفض الفرنسي-الغربي والمثبطات القانونية في الأمم المتحدة، والبقية معروفة.
كما أن ضبابية الجغرافيا السياسية اليوم مع تداعيات جائحة كورونا، تجعل الجميع يخرج بقناعة أنه لا يوجد تصور مستقبلي واحد مضمون الحدوث حتى عام (2030) ومع ذلك هناك بعض السيناريوهات المحتملة من قبيل: نهاية النظام الليبرالي العالمي؛ استبداد سلطوي يشبه فترة الثلاثينات؛ نظام عالمي تهيمن عليه الصين؛ استمرار الوضع الحالي. تعاون مع الصين في قضايا معينة مثل (تغير الأوبئة، التغير المناخي) وبنفس الوقت استمرار المنافسة في قضايا اخرى مثل (حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي)؛ كما أن طريقة بلورة وتسيير السياسات العمومية في كل الدول، في الجانب الفلاحي والصناعي والتجاري والتشغيل وبالأخص في مجالات الأمن والسياسات الدفاعية والتسلح، تجعل كل النظريات التي ينادي بها منظرو الفلسفة والقانون صماء لشرح ما يدور في فلك التحولات الجذرية التي تعصف بالمجتمعات الصناعية الغربية منذ عقود. فالسياسات العمومية تغير اليوم السياسة، أي أن واقعها في ظل المتغيرات الدولية المعاصرة تفرض على الدوائر التي تأخذ القرارات وضع نظارات مغايرة لما اعتادتها؛ ففي مجال الأمن والدفاع والتأثير على مكونات النظام العالمي، يجب وضع نظارات استراتيجية شبه قانونية بدل نظارات قانونية فلسفية صرفة.. ولقد وصل العديد من الزملاء في الجامعات الفرنسية، إلى هاته النتيجة التي وصل إليها زملاؤهم الأمريكيون منذ أربعة قرون أو ما يزيد، في تفسيرهم لتغيرات النظام الدولي، وبعد أمد طويل من المناهج الفكرية التقليدية التي قلصت من سعة الفهم والشرح والتنظير والتأثير عند المنظر وعند صاحب القرار على السواء.