أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: منذ أَزْيد من أربعين عاماً: كنتُ أُلْقي بإذاعة المملكة العربية السعودية تفسيراً مباركاً، وَقَدْ أجمع مستمعُوه (بدلالة ما تواتر عندي من إخبار) عَنْ استحسانه، وظللتُ عدةَ سنوات أُلقيه إلى أنْ حال بيني وبين إتْمامه كثرة الشواغل، وأعادوا إذاعته بعد ذلك ثلاثَ مرات غير متتابعات، وظللتُ في أوقات النشاط أكتبُ تفسيراً لبعض الآيات الكريمات على مَنْهج ما مَضى ذكره.. إلاَّ أنَّ الآيات كانت انْتقاءً، ولم تكن وَفْقَ ترتيب القرآن الكريم.. ولا أزالُ على هذه المتابعة، ثم رأيتُ معاودة ما كتبته بالتهذيب والإضافة والحذف، والتَّجْزئة؛ فمنه ما ألحقته بمؤلَّفاتـي الفقهية، أو الحديثية، أو الأصولية، أو اللغوية؛ ومنه ما جعلته ضمن تحشيتي على تفسير الشوكاني رحمه الله تعالى (التقرير والتحرير)، ومنه ما جعلته مؤلَّفاً مستقلاً في سلسلة (تفسير التفاسير) منْ تأليفي؛ وهو الأكثر، ثم أحيل إليه أو آخذ ملخصه في (التقرير والتحرير)، وما أردتُ بتفسير التفاسير الادّعاء بأنه أُمُّها؛ وإنَّما أردتُ عنايته بما غمض من كتب التفسير؛ فكان تفسيراً لها، ولا سيما كتب الحواشي على الكشاف والبيضاوي، وأكثرها عَسْر الأسلوب، كثير الاختصار إلى ما يشبه الرموز، مشحون بالمصطلحات البلاغية والمنطقية وغيرها.
قال أبوعبدالرحمن: اشتملت سورة الفاتحة على أنواع التَّوحيد للرَّبِّ سبحانه وتعالى: وصفاً، وفعلاً، وتعبُّداً من المخلوق.. وبيانُ ذلك أنَّ اسم الله الأعظم (الله) الذي لا يشركه في التسمّي به أحدٌ: أثبته الله نصاً في قولـه سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وأثبت مقتضاه؛ وهو صرف العبادة لله وحده بقولـه سبحانه وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وأثبت توحيد الربوبية بنوعَيه؛ لأنَّ لله ربوبية عامة يدخل فيها عباد الله كوناً، وربوبية خاصة يختص بها عباد الله كوناً وشرعاً من المؤمنين المطيعين؛ فورد النصُّ بالربوبية العامَّة في قولـه سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وقرن بالربوبية صفة الرحمن وهي صفته الذاتية المحضَة، ثم ذكر صفة الرحيم التي يصدر عنها فعله الاختياري، وعلَّق بها الطلب الخاص وهو طلب الهداية.. ووجه هذا التعليق أنَّ الطلب متعلقٌ بصفة قوم نالوا الهداية الصادرة من صفة الرحيم، ووردت الإشارة إلى النوع الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات بالحصر في قوله سبحانه وتعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛ فالحمد المطلق إنما هو لله وحده بمقتضى كماله جلَّ جلاله، ومبنى توحيد الأسماء والصفات على الكمال.
قال أبو عبدالرحمن: كثيرٌ من البدعيين ينكر التقسيم إلى توحيد ربوبية وألوهية وأسماء وصفات، ويراه حادثاً.. ومعلومٌ أنَّ المسلمين لما انتقلوا من الأُميَّة إلى الكتابة والعلم احتاجوا إلى الاصطلاح الخاص الذي هو عُرْف أهل التخصص العلمي، وقد يتأخر الاصطلاح إلى وقت وجود لبس وشُبَه، والعبرة في صحة الاصطلاح والتقسيم: صحةُ وجوده في العلم الذي تفرَّع عنه الاصطلاح، وصحة القسمة الحاصرة، وما يتميَّز به كل قسم من حكم.. وبما أنَّ العلم هاهنا شرعيٌّ عقديٌّ: فقد دلَّ الاستقراء الحاصر على أنَّ ما يليق بربنا سبحانه تفصيلاً هو ما أثبته لنفسه من صفات، ثم دلَّ الاستقراء على أنها قسمان: ما يتعلَّق بأوصاف ذاته سبحانه الملازمة والاختيارية: أي التي يصدر عنها فعل اختياري كالسميع والكريم؛ فذلك هو توحيد الأسماء والصفات؛ لأنه دعاء لله سبحانه بأسماء وصفات مُعيَّنة.. وصارت أسماءً؛ لأنَّ معانيها على وجه الكمال وبلوغ الغاية لا يملكها غيره.. وله الكمال المطلق بالتنزه عن النقص، والمثل الأعلى من الكمال فيما ورد من النصوص النافية للنقص في مثل قولـه تعالى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [سورة البقرة/255].. ثم وُجد في الاستقراء أنَّ هذه الأسماء الحسنى يصدر عنها أفعال من الله في ملكه خلقاً وتدبيراً وملكاً وقيُّومية ونعمة ونقمة؛ فكان ذلك هو توحيد الربوبية.. وجاءت النصوص بالعبادة لله وحده؛ لأنه المستحق لها وحده؛ فهي من مربوب إلى الرب، ومن عاجز إلى القادر، ومن فقير إلى الغني؛ فكان ذلك هو توحيد الألوهية.. ولا يتصور العقل ولا يجد في الشرع غير هذه القسمة الحاصرة.. وأُضيفت الوحدانية إلى الأقسام الثلاثة؛ لأن صريح الأدلة قطعي على أنه واحد في صفاته، وصفات أفعاله لا يشركه فيها أحد؛ فرتـَّب على ذلك توحيده بالعبادة كما في قولـه تعالى سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء/25].
قال أبو عبدالرحمن: ومن معاني السورة: الأمر بحمد لله؛ وبيان ذلك أنَّ الآية خبر بصيغة تدل على استحقاق الله للحمد وحده؛ فيجب أنْ يُصرف له الحمد وحده استحقاقاً، والامتناع عن ذلك ظلم؛ ولهذا كان الشرك ظلماً عظيماً.. كما أنَّ تلاوة السورة شرطٌ لصحة الصلاة على القادر، والتلاوة مطلوبة خارج الصلاة؛ فالخبر من الله بأنَّ الحمد لله (مع الأمر بالتلاوة، واشتراط الحمد في الصلاة): تعليم للخلق أنْ يمتثلوا بالاعتراف عقيدة: بأنَّ الحمد لله، وأنَّ يمتثلوا ذلك نطقاً.. ومن معاني السورة الإيماءُ على أنَّ الله المستحق للعبادة وحده من وجه آخر، وهو الخبر بأنه سبحانه مالك يوم الدين؛ فالحق أنْ لا يُعبد غير مالك الجزاء المتفرد به، وقامت السورة الكريمة على إخبار وأمر ونهي؛ فالخبر عن اسم الله، وعن صفتيه الرحمن والرحيم، وعن صفته بأنه مالك يوم الدين.. والأمر هو التوجيه بقصر العبادة عليه سبحانه في قولـه تعالى سبحانه وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، والنهي هو التوجيه بمزايلة سبيل المغضوب عليهم والضالين؛ فذلك نهي عن اتباعهم؛ لأنَّ استثناءهم من المهديين المطلوب الهداية إلى صراطهم، ووصفهم بأنهم مغضوب عليهم وضالُّون: يقتضي النهي عن سبيلهم بضرورة العقل.. وبما أنَّ الخبر والأمر والنهي من أجل تحديد صراط المكلف (اعتقاداً، وقولاً، وفعلاً)، وبما أنَّ ثمرة فعل المكلف ما يترتب عليه من جزاء: فقد جاء ترتيب سياق معاني السورة لإقامة الحجة على المكلف بأن عبادته لربه هي المتعيّنة عليه استحقاقاً، وأنَّ مجازاته على الخير بخير، وعلى الشر بشر هي العدل.. وبيان ذلك أنَّ الله قدَّم الخبر وهو أمر ضمناً بأنَّ الحمد له، وذلك باسمه الأعظم (الله)؛ لأنه يستحق الحمد المطلق بمقتضى كماله وألوهيته وربوبيته.. ثم ذكر اسم الرحمن لأنه أعمُّ معاني ربوبيته، وأنفعها للخلق؛ لكونه صفة ثبوتية.. وذكر اسم الرحيم الذي يصدر عنه فعله الاختياري، وبمقتضاه يطلب العبد الهداية الخاصة إلى صراط الله المستقيم؛ لتكون عبادة الله المأمور بها في السورة (وفق مراد الله) بريئة من عناد المغضوب عليهم، وجهل الضالين.. ثم جاء الوصف الرابع المقيَّد وهو {مَلك يَوْم الدّين} إيذاناً بحتمية الجزاء والحساب؛ فدلَّ على أن أمر الله الشرعي يملك العبد عصيانَـه في الدنيا، ولكنه لا يستطيع الفرار عن جزائه في يوم القيامة؛ من حيث لا حريَّة للعاصي في الفرار كما هو حرٌّ في الطاعة والعصيان بدنياه.. وتضمَّنت السورة الكريمة أعمَّ أسماء الله الذي يصدر عنه ربوبية الله وَمنَّتُه على خلقه؛ ولهذا يرى الإمام الجليل ابن قيم الجوزية: أنَّ الأسماء الثلاثة (الله، والرب، والرحمن) هي المرجع لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.. انظر كتاب (مدارج السالكين) 1/13.. طبع ونشر دار الحديث بالقاهرة.قال أبوعبدالرحمن: هذا صحيحٌ، ولكن ليس بإطلاق؛ بل بتفصيل؛ فاسمُ الجلالة (الله) هو المرجع؛ لأنه اسم الله الأعظم، ولأن كل اسم آخر وصفٌ لاسم الجلالة، ثم يكون كل اسم من أسماء الله مرجعاً للأسماء الأخرى بمقتضى المقام؛ فإذا أُريدت الربوبية بمعنى هيمنة الله: فمجامع الأسماء العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر.. وإذا أُريد معنى ربوبية الله بمعنى اللُّطف، وإشعار المكلفين بفقرهم إلى ربهم، وإظهار منَّة الله جلَّ جلاله عليهم: أصبح اسما الرحمن والرحيم من مجامع الأسماء في هذا المقام مع ما سبق من معاني الهيمنة والملك والتدبير بالنعمة والنقمة، وإلى لقاء قادم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عَنّي، و عنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-