د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تتشابهُ مسيرة «ابن الراوندي» الفارسي - من فلاسفة القرن الثالث الهجري (827-911م) - مع مسيرة كثير من المفكرين المتحوّلين الذين اعتنقوا أكثر من توجُّه؛ فتبدلت مواقفهم، وربما عقائدهم. وإذ فنيت معظم مؤلفاته بسبب إتلافها ففي بعض ما نُقل عنها تتكرر أمثلةٌ من الملحدين وغير الأدريين الذين «كانوا فصاروا»، سواءٌ أعبروا قنطرة التحول العاصف أو اتجهوا نحو الاعتناق المباشر، ويضاهيه هذا الزمن الذي لم يعد الملحدُ فيه مستترًا ولا الإلحادُ قضية وإن تواريا خلف سُدُمٍ ثقافيةٍ ومصطلحية.
** ابن الراوندي المعتزلي زمنَ المتوكل بكتبه: (الابتداء والإعادة والأسماء والأحكام وخلق القرآن) هو نفسُه المنقلبُ على الانعزال في كتابه: (فضيحة المعتزلة) ردًّا على كتاب الجاحظ: (فضيلة المعتزلة)، وهو الشيعيُّ صاحب كتاب (الإمامية)، المنصرفُ في كتاب (الزمرد) مُشككًا بالله تعالى وكتبه ورسله.
** لا قيمة للاستشهاد بشيء من كتاباته المتبقية عبر نقل عبارات ممن ردوا عليه؛ فليس هذا غايةَ الكلام، وإنما التشابه لدرجة التطابق مع «العقلانيين» الذين يؤلهون العقل، ولا يرون قيمةً للنقل.
** هنا يتجلى الخلاف، وربما يكمن الائتلاف؛ فالعقلُ طرفُ معادلة لا ميزان عدل، والنقل مرجعيةُ إيمان واطمئنان، والجمع بينهما ليس عسيرًا إلا حين يقود الهوى فيغلق المنافذ، وفي بعضها ما توارثته معطيات أزمنة سبقت «سقراط»، وخلفته مقتنعةً أن قوانين الطبيعة - وفق استنتاجات العقل - قادرة على تحليل الظواهر الكونية.
** في رحلة الصِّبا لجيلنا الذي سبق الصحوة «قليلًا» شَبهٌ من هذه الفترة؛ فكان فيها المجاهرُ بالشك، والتاركُ للصلاة، والمحرضُ على الانعتاق من نصوص الدِّين، والحاثُّ على استفتاء العقل. وكان لنا صديق - وأعمارنا لم تتجاوز الخامسة عشرة - يضرب لنا أمثلةً بمن يؤمن بالغيب كمن يؤمن بأن بئرًا مهجورةً في مدينتنا - سمَّاها - ملأى بالذهب. وإذا أقمنا الصلاة في رحلاتنا أخذ «طبلًا»، وأطرب نفسَه في قِبلتنا ليُشغلنا عنها. وقد صار صاحبنا - بعد ذلك - أحدَ أعمدة المسجد. والله وحده الهادي.
** اليوم يمرُّ بعض الشباب بما سبق أن مرَّ به «ابنُ الراوندي والقصيمي» - وبينهما أكثر من ألف عام - وغيرُهما من المتحولين عَقَديًا الذين رأوا في العقل حلًا، وفي مقابلهم نقليُّون لا يؤمنون بالعقل مع أن النقل لا يسدُّ وحده ما لم يُوثقْ ويدققْ ويُجمَعْ على تفسيره. وفي النقل والعقل - عند اجتماعهما - نورُ بصيرة. وقد مثَّل كتاب الدكتور مصطفى محمود - رحمه الله - (1921- 2009م): (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، الصادر عام 1970م، مسارًا في الاتجاه المضاد؛ إذ أجاب عن استفهامات العقل، وعزز بشواهد النقل، وهو من المتحولين في اتجاه مضاد. وليت مَن تُقلُقه هواجسه من الصبية «تحديدًا» يتصفحُ هذا الكتاب، الذي كتب مؤلفُه يومًا: «نحن في عصر الذرة ولسنا في عصر الصلاة»!
** العقلُ يُورق ويُقلق.