د. حسن بن فهد الهويمل
المنغمسون في وحل السياسة مثلهم كمثل الذي ركب البحر الهائج, ثم تكسر قاربه, وضاع مجدافه, وتمزقت أشرعته, ولم يبقَ له إلا لوح من الخشب, يطفو عليه تارة, وينغمس به أخرى. ولا يملك إلا كلمة واحدة:- اللهم سلِّم, سلِّم. فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون .
السياسة فن الممكن, يعشقها المفكّر القدير, والعالم النحرير, والعاطفي الأهوج, يتهافتون على بؤرتها كالفراش, حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم أدركوا خطورتها, وبُعْد غورها. هي بحر عميق. وكم من مشرف على الغرق يردد:- (لَوْ أنِّي أَعْرِفُ أنَّ البَحْرَ عَمِيقٌ جِدَّاً مَا أبحرت).
لقد وقَعْتُ في شراكها في عنفوان شبابي؛ بهرتني يومها (كَارِيزْمية) (جون كندي) وجاذبيته؛ فدخلتها, ولما أزل كأي أمريكي معلق بملف اغتياله الذي رفع, ولم تكتشف حيثيات اغتياله, وأسبابها, ودوافعها.
هذه واقعة تمثل غموض السياسة, ومفاجآتها, وما أكثر الأحداث المماثلة، سواء كانت اغتيالاً, أو انقلاباً, أو تنحية.
عالمنا العربي والإسلامي، الذي يطلق عليه اسم (العالم الثالث), يعيش في أتون السياسة, وتناقضاتها. ومصدر أمثالي الطفح الإعلامي, نضرب متناقضاته بعضها ببعض؛ لتنقدح لنا بعض الحقائق الاحتمالية.
ولأنني أعرف ضلال بعض مصادري, وكذبها, فإنني لا أقطع في أي قضية.
قضايا السياسة عندي احتمالية؛ ولهذا أحاول تنحية عواطفي, وتمكين عقلي, ومعرفتي, وتجاربي في تحديد موقفي.
لا أصر على أي موقف, ولا أراهن على أي موقف. كل الأشياء خارج قطعياتي.
ولهذا لم يحتوِني مذهب, ولا حزب, ولم أتحمس إلا للحق المجرد, الحق البيّن, على الرغم من تصنيفي, والتحريض عليَّ.
لا أجترح صناعة الأعداء, ولا تهميش الخصوم. هدفي دائماً الاحتواء, أو الاستصلاح, أو التحييد ما أمكن. أتفادى الشخصنة, ولا أمضي في طريق مسدود. لا بد من نافقاء أنفذ منها, عندما تكشر السياسة عن نواياها.
عالمنا العربي في ظل المتغيرات السياسية العالمية دوامة الفتن, ينفق عليها, وينفّذ تناوشها بالإنابة.
دول مسالمة تتوخى الحق, وتصبو إلى الوئام, توصف بأقذع الأوصاف, ويكال لها الشتم, والاتهام.
وأخرى شريرة, توقظ الفتن, وتوقد نارها, تعتدي على الحق, وتقاوم الشرعية, وتفتري الكذب, وتصدر الطائفية, والعنصرية, تُدْعم, وتُحْمى, وتُغَطَّى عيوبُها, ويرتفع صوتها في المحافل الدولية, وكأنها من رُسِل السلام.
همها تفريق الشمل, وإشاعة الخوف, وتعدي حدودها بجيوشها, وعملائها, وإعلامها, وما أحد قال بحقها ما يقمع غطرستها, وتنمرها الورقي.
تلك هي السياسة: عهر في الأخلاق, وكفر بالمبادئ, وتفسح في الأعمال. تنام على خطاب متشنج, خطاب في منتهى السوء, وتصحو على خطاب مثالي, تسامحي. خطاب يتسامى فوق الترهات, والمصدر واحد, ولكن الظروف تختلف.
هذه تقلبات السياسة, خذها على ما هي عليه, أو دعها لغيرك, فلست وحدك الذي لا يفهم عن مجريات الأحداث شيئاً.
ما من عاقل رشيد يدفع بنفسه في أتونها عامداً متعمداً, ولكنها منتشرة كالوباء, تجد نفسك فيها؛ لأنها طوفان نوح, لا يعصمك منها الجبل, تدخل في كل شيء, وحين لا تجد بُداً من الوقوع في شراكها فعليك ارتكاب أهون الضررين.كانت الفنون والعلوم مستقلة, والسياسة في معزل عنها, ومع التحولات الحتمية أصبح العلماء, والأدباء, والمفكرون, والفلاسفة مغمورين في مياهها الآسنة, سُيِّسَ كل شيء, لا شيء خارج سلطتها.
وحق لكل عاقل أن يصيح بملء فمه:- لَمْ أعُد أَفْهم ما يجري..!.