طلال أبو غزالة
إن الحديث عن التكنولوجيا، والناس، والعمليات المعقدة التي تربط بينها، والاعتبارات التي أحسستُ أنها ضرورية لضمان التّطوير الأمثل للمدن الذّكيّة، أمر ليس بالصّعب، ولا بالهيّن؛ لأن بناءها أمر مُكلِف، وطويل الأمد، في حين أن التحليل النقدي لبناء أي مدن ذكية، وجدوى منفعته، والإحصائيات المرتبطة به، ودراسة تنفيذها هو أمر مختلف، ويحتاج إلى خبراء، ولجان متخصصة.
لقد آثرتُ تسليط الضوء في كتابي (المستقبل الرقمي الحتمي: عالم المدن الذكية) المنشور مجاناً باللغتين العربية والإنجليزية على القضايا التي عانتها المدن الذكية التي سبقتنا، وهي لا تزال في مرحلة التّطوير، وتواجه الصّعوبات؛ كي نتعلم منها دروسًا ستفيدنا في المضيّ قُدُمًا وتحويل مدننا إلى مدن ذكية.
تصيبنا الدّهشة كل يوم ونحن نتطلع إلى ابتكاراتٍ وتطوّراتٍ تملأ حياتنا وتدخل في تفاصيلها، فنضطر إلى التعامل مع آلة تنظم لنا ما لا يمكننا تنظيمه يدويًّا مهما بلغنا من تنظيم؛ لأن المتطلبات كثرت، والرغبات تشعبت، والدنيا من حولنا اتسعت بنسبة 300% في أقل تقدير، وأتقنت الآلة المهن التي كانت حصرًا على ذكاء البشر!
إن الطبيب الآلي سينجح في تنفيذ العملية الجراحية بنسبة لا تقل عن 100% وهي النسبة التي لا يمكن لطبيب بشري أن يتفوّه بها!
ويتم معالجة بيانات ضخمة، ومعلومات لا تحصى، وعمل تحليلات لها كلها.. في المدن الذكية بواسطة تكنولوجيا الآلة الذكية، فيتمكن سكّان تلك المدن من الحصول على نتائج وتحليلات تسهل عليهم طريقة عيشهم، ويستثمرونها وقت الحاجة.
فكيف يتم ذلك؟
نحتاج في المدن الذكية إلى العديد من التطبيقات التكنولوجية للحصول على تحليلات تتناسب مع كل موقف.. فنستفيد منها في الوقت المناسب؛ ونستطيع اتخاذ القرار المناسب.. دون تأخير قد يجرّ علينا الهلاك!
ومن هنا نحن بأمس الحاجة إلى وجود خبراء لتلك الشّبكات وبياناتها، وقيادتها، وتزويدها... كما سيتم استثمار أجهزة الاستشعار في روبوتات شديدة الحساسيّة تحقيقًا لمفهوم إنترنت الأشياء، أي: ستعيد الروبوتات تلك البيانات التي قمنا بإدخالها إلينا على صورة خدمات نستفيد منها.. فيمكن أن تساعد المعلومات القادمة من مستشعرات إنترنت الأشياء في الكشف عن أنماط استخدام المواطنين لوسائل النقل العام الذكية، من خلال التواصل مع معلومات حركة المرور، ومعرفة أحوال الطقس، وتمكينهم من اتخاذ قرارات أكثر استنارة.
ومن صور العيش الذّكيّ في تلك المدن ما تمكّنه الخارطة الجغرافية من الاستدلال على مواقف للسيارة، في الوقت المناسب، عبر الهواتف الذكية، فيوفر ذلك الوقت، ويمنع من القيادة العمياء.. وبالتالي سنعيش في طرق ذكيّة تتفاعل مع حاجة السّائقين، وتحذرهم؛ لتجنب أي خطر في الوقت الأمثل، ويمكن أن تتحكم في إضاءة الطريق وحدها؛ امتثالاً لتغيّرات الطقس، مع تحديد الاتجاه الأمثل لمن يعلم طريقه، ولمن لا يعلم!
ومن صور العيش الذّكيّ ما تصنعه أجهزة الاستشعار في إدارة النّفايات الذكية، من مراقبة حاويات النّفايات وترتيب دوريات جمعها، وتتبع مستوياتها، وتوجيه كوادر الآلات الضّاغطة إلى المناطق الأكثر حاجة.
كما تحقّق صور العيش الذّكيّ السّلامة العامّة التي تعدّ الهدف الأسمى لأي بلدية تنعم باستخدامها لتقنيات إنترنت الأشياء، وذلك من خلال البيانات، والمعلومات، والتّحليلات التي تعدّها وتجهّزها في الوقت المناسب وبكفاءة فائقة ستمكن مستخدميها من منع الجريمة، وتهديهم إلى تعقّب المجرمين، وتساعدهم في صنع القرار.
ومن صور العيش الذكي ما ستنعم به المستشفيات الذكية من أجهزة رعاية صحيّة قادرة على مراقبة المرضى عن بعد، ومتابعة تسلّمهم لأدويتهم، وتناولهم إيّاها، ورصد مخزون صيدلياتها، ومعالجة النّقص فيها في الوقت الأنسب.. وتحديد الموقع الدقيق لمكان أطباء المستشفيات في حالات طلبهم عند الطّوارئ، بدقة غير مسبوقة.. لا مجال فيها للخطأ أو التخمين.
تقدّم المدن الذكية صورًا من العيش الذكيّ، وإننا إذ نتعرف على ما توفره من خدمات، وتختصره من أوقات، فإننا نحسّ بأننا ما زلنا خارج السرب! وإننا إن لم نحسن البدء في تحويل مدننا من صورتها التقليدية إلى صورتها الذكية، فسنفقد الجهد والمال والوقت الذي هو أهم ما سنفتقده.
إن علينا أن نعي بأن الوقت ليس بصالحنا، وإن علينا تدريب موظفينا، ومواطنينا جميعًا على التطبيقات التي ستطرحها مجالات الاستخدام في المدن الذكية القادمة.. بما سنشهده من صور لحياة جديدة لم نكن نألفها.. آخذين بعين الاعتبار أن السّباق قد بدأ، وأن الذكاء لا ينظر خلفه، ولن ينتظر العالم أحدًا كي يأخذ حظّه منه، وأن الأمر ليس بالبساطة التي نظنها، كما أنه ليس بالمستحيل، وأن علينا مجاهدة أنفسنا على التّدريب والتّعلّم المستمرّين، وأن علينا الاقتناع بأهمية تأهيل مدننا والانتقال بها إلى مصاف المدن الذكية في العالم، ثم الاقتناع بأهمية ما ستقدّمه من خدمات ضرورية في مستقبل حياتنا المجهول شكلاً.. ولكنّه غير المجهول ضمنًا؛ لأننا نلمس أثر الذّكاء الاصطناعي في كل ما يحيطنا.. كما نلمس أثر إنترنت الأشياء على كل ما له علاقة مباشرة معنا.
فلنستعد ولنسرج ركوبتنا ونعدّ العدة؛ لنكسب الرهان على مستقبل عيشنا الذّكيّ، فإما أن نعيشه وننعم به، وإما أن نبقى من جمهور المتفرّجين.. نتفرّج على غيرنا وندهش لطريقة حياتهم ونذوب حسرة.