د. تنيضب الفايدي
أصبحت يثرب وجهة جديدة للهجرة بعد بيعة العقبة الثانية بدلاً من الحبشة؛ لذلك قَدِم إليها مجموعة من الصحابة، ثم هاجر إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبصحبته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأسماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة. وفتح الأنصار قلوبهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقدّموا له كلّ غالٍ ونفيس. وقد حفظ لهم -صلى الله عليه وسلم- كريم مواقفهم، وتشرفهم باستقباله -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً، والأنصار -رضي الله عنهم- قدموا أرواحهم فداءً للحبيب -صلى الله عليه وسلم-، وقدّم لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وهو الحليم الرحيم العطوف، صفي النفس، ونقي السريرة، كامل الأخلاق، وصافي الحب والود.
وحيث وقعت غزوة حنين بعد فتح مكة المكرمة في العام الثامن للهجرة، وقد انتصر المسلمون بعد الهزيمة؛ إذ ثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ميدان المعركة، وغنم المسلمون غنائم كثيرة جداً. وقد شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم الغنائم، وبدأ بالمؤلفة قلوبهم، فأعطاهم أوفى العطاء وأجزله، وشاع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان العطاء وافراً لرؤساء القبائل ولقريش ولغيرهم من العرب. أما المسلمون الأولون من المهاجرين والأنصار فقد كان نصيبهم لا يكاد يُذكر، ولما رأت الأنصار ما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقريش تكلموا، وقالوا في ذلك «حنّ الرجل إلى أهله»، فقد روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه. فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
«يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل. قال - صلى الله عليه وسلم -: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدقتم: أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار».
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً وحظاً. ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقوا، وتأثروا بذلك تأثراً كبيراً.
وهكذا كان الأنصار الصادقون في محبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحرصهم على صحبته، وكذلك المهاجرون وجميع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -.
وهكذا يفعل الحبّ والشوق والتعلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث إن كلّ مسلم يعلم أن حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون أحب من النفس ذاتها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ونفسه والناس أجمعين».
بل كان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - يتتبعون أثره بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، ويشتاقون إليه - صلى الله عليه وسلم - باستمرار، ويعبّرون عن ذلك بالبكاء، ومنهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - حيث ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بكى، ولا مرّ على ربعه إلا أغمض عينيه هيبةً وإجلالاً. كما أن سيدنا بلالاً - رضي الله عنه - ذهب إلى الشام بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قدم بعد فترة إلى المدينة المنورة، وطلب منه أهل المدينة أن يؤذِّن لهم كما كان يؤذن في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد اجتمع أهل المدينة يستمعون الأذان، وعندما بدأ في التكبير بكوا جميعاً، ولما قال أشهد أن لا إله إلا الله ضجوا جميعاً بالبكاء، ولما قال أشهد أن محمداً رسول الله، لم يبق في المدينة أحد سمعه إلا بكى شوقاً وحباً لسيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ومعلوم أن المحبة باتباعه - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً، والتقيد بما ورد في سيرته العطرة، والالتزام بها، وأن يتدارسها المسلم مع أبنائه وأهل بيته؛ لتكون نبراساً نقتدي بها في كل شيء، وأن نكرر باستمرار الصلاة والسلام عليه امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. صدق الله العظيم.