د.عبدالمحسن بن محمد الرشود
لقد أهداني ابن الأخت الفاضل الشيخ سعد بن عبدالعزيز العثمان - وكيل إمارة المنطقة الشرقية سابقاً - كتاباً رائعاً شيقاً ممتعاً بعنوان «رحلة من الدرعية إلى أمريكا» لمؤلفه الدكتور عبدالملك بن أحمد آل الشيخ حفيد الشيخ المفتي الكبير محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه... والجميل أن المؤلف أهدى هذه السيرة المميزة لزوجته الدكتورة نورة بن عبدالعزيز آل الشيخ عميدة الكليات الإنسانية في جامعة الملك سعود سابقاً وإلى بناته المشار إليهن في الإهداء... وهذه لمسة جميلة واعتراف كبير بأهمية الوفاء للزوجة والأسرة اللصيقة بالإنسان مدى العمر!!
والحقيقة الكتاب يوثق سيرة ذاتية وعملية للمؤلف، وكذلك تعتبر تسجيلاً حقيقياً لتاريخ الرياض والدرعية ودخنة (ومزرعة أم جرار).
ذلك التاريخ الاجتماعي الذي يصور حركة المجتمع السعودية منذ مطلع السبعينيات الهجرية (الخمسينيات) الميلادية... بدءاً من والدته هيا آل عثمان التي تقطن الدرعية مع أسرتها المنتمية إلى عثمان بن عون الشويعر من بني خالد... تلك الأسرة التي تملك العديد من المزارع العائلية في الدرعية مثل النميلة وأبو سدير والحسانية وغيرها من المزارع مروراً بدراسته الابتدائية في حي دخنة «حي العلماء والمشايخ) حيث قضى سنوات طفولته في بيت جده لوالده سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ- يرحمه الله- في هذا الحي الذي يعتبر من أكبر وأشهر أحياء مدينة الرياض في القرن الرابع عشر الهجري النابض بالحركة، المزدهر بالتجارة، وبالعلم والعلماء والقضاة، حيث كانت منازلهم عامرة بالدرس والبحث في علوم الدين والدنيا. وانتهاء بتجربته العلمية والدراسات العليا في الولايات المتحدة، وعودته للعمل في القطاع الخاص ثم العمل في وزارة العدل مديراً لمكتب معالي وزير العدل.
الكتاب آخذ مساراً جديداً في سرد الحيا ة الاجتماعية ومعطياتها الثقافية وتفاصيلها الجزئية الصغيرة عندما كان عبدالملك في مدرسة المحمدية، والمدرس الفلسطيني، مدرس الحساب، وخروجه من المعهد العلمي وتعرضه لظلم المدرس (الكفيف) وحكاية (الفصفص، وبائع الخمور ص28، الملك فيصل في الوسيطى ص64، في شارعي الثميري والوزير، وفصفص في الفصل ص85، فريق نمور البديعة ص88، في بيتنا تلفزيون ص60، دكان ابن عبيد ص69 سيارة الملك سعود، سفري إلى بيروت ص92، اغتيال الملك فيصل ص122، توقيفي في مطار سان فرانسيسكو ص162 الغيرة حتى من الكلام.... عناوين جاذبة ومحتوى أجمل..
الكتاب يقع في 255 صفحة ويحتوي على الفصل الأول: أنس الطفولة والصبا، والفصل الثاني: بداية الرحلة، الفصل الثالث: الابتعاث إلى أمريكا، الفصل الرابع: بين العمل والفكر، ولقد تحدث الكتاب عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، وعن إنجازاته وأعماله في ص39 وتأسيس المعاهد العلمية وكليات الشريعة واللغة العربية. ومعهد إمام الدعوة عام 1373هـ ودار الإفتاء، والمعهد العالي للقضاء، وترشيح الأئمة والمؤذنين والوعاظ والمرشدين وغير ذلك.
والكاتب آل الشيخ يملك حساً أدبياً فنياً رائعاً. ذلك أن كتابه يمكن أن يكون فيلما وثائقيا عن الرياض والدرعية ويمكن أيضاً أن يكون عملاً درامياً فذاً أو فيلماً يصور حالة المبدع الزمان والمكان.. ذلك أنه جعل لكل حادثة مشهدا فنيا جاهزا أو لنقل سيناريو فنيا جاهزا للإخراج... الأحداث، «التفاصيل السيناريو» لو تم وضع حبكة درامية... البداية والدراما والأحداث والعقدة ثم النهاية لأصبح عملاً جاهزاً يحتاج إلى مخرج سينمائي فقط خصوصاً أحداث الطفولة في مزارع الدرعية (آل عثمان) أجداده ودخنة، حيث يقطن أجداده لأبيه من آل الشيخ مثل المدرسة المحمدية ومضاربات الأطفال.. مراسم الأعياد، ولقاؤه بالملك فيصل- رحمه الله- في الوسيطى. انظر أخي الكريم كيف يصف الدكتور آل الشيخ خبر تلقيه وفاة جده محمد بن إبراهيم ص94 في المصاب الجلل (كان يوم الأربعاء 4 من شهر رمضان لعام 1389 يوماً فارقاً في حياتي، فبعد عودتي من المدرسة وجدت الوالدة هيا بنت عبدالرحمن العثمان- يرحمها الله-. تترقب عودتي فلما دخلت البيت احتضنتني، وأجهشت بالبكاء وقالت لي «أخلف الله عليك في أبيك الشيخ محمد» فقبلت رأسها وألقيتُ كتبي الملفوفة بسجادة الصلاة في البلكونة، وتوجهت إلى بيته في حي دخنه مشياً على الأقدام، ولم تفلح محاولاتها في إثنائي عن الذهاب، فالمسافة بعيدة وأنا صائم لكني كنت مصراً على الذهاب. وأسرعت الخُطى مخترقاً شارع العريجاء ووصلت إلى المستشفى المركزي ثم سلكت شارع الشميسي القديم مروراً بمستوصف الحرس الوطني الذي كان في قمة الشارع من جهة الغربية... ووصلت إلى بيت الوالد الشيخ محمد في دخنه بعدما قطعت مسافة طويلة تقدر بنحو عشرة كيلومترات مشياً على الأقدام. إذ كنت أمني نفسي بإلقاء نظرة الوداع عليه..).
... ويستمر الكاتب في الوصف الدقيق لما حدث له حيث كان آخر ما سجلته عيناه لوالده الشيخ رؤيته وهو مسجى في إحدى غرف البيت الداخلية قبل وفاته بأيام بعد عودته من رحلته العلاجية غير الناجحة إلى لندن.
أخي القارئ أختي القارئة لا أريد الحديث عن كل شي سأدعكم تقرؤون هذا الكتاب الممتع وخصوصاً لجيلي، جيل السبعينيات حيث ذكرني الكتاب بطفولتي أيضاً وبأهلي وأحبابي وأصدقائي الذين تخطفتهم يد المنون، وذكريات الطفولة وألعابها وحكاياتها الجميلة وعلاقات الناس ببعض، وبساطة الحياة آنذاك، وجمال الأشياء. هذا كتاب تجد فيه كل أحياء الرياض الدحو، الشميسي، المرقب، الوسيطى وجبرة شارع الوزير - الظهير. العطايف، البديعة، عليشة، العريجاء، شارع آل ريس، نجد، أسر الرياض العريقة الأصيلة، وصف كامل لحال الدرعية الاجتماعية... الحق أن الكتاب يحيي عبق الرياض والدرعية. ودورها التنموي والسياسي في النهوض الديني والفكري والعملي للمملكة العربية السعودية.
... سوف لن أكتب عن فصول الابتعاث إلى أمريكا، وبين العمل والفكر.. لأن المجال لا يتسع صحفياً.. لكنني أقول جزاك الله خيرا يا دكتور على هذا الكتاب النادر... والطريقة الإبداعية التي خضت غمارها.. وأقترح على وزارة الثقافة توثيق هذا العمل بدراما محلية تجسد حياة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات ليعرفها أبناؤنا اليوم..