أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قيل: نهض (الحارث بن حَوطٍ اللَّيثي) إلى (عليِّ بن أبي طالب)، وهو على المنبر، فقال: «أ تظُنُّ أنَّا نظُنُّ أنَّ (طلحة) و(الزُّبير) كانا على ضَلال؟» قال: «يا حَارِ، إنَّه ملبوسٌ عليكَ، إنَّ الحقَّ لا يُعرَفَ بالرِّجال، فاعرفْ الحقَّ تَعرِفْ أهلَه!» وتلكم معضلةٌ ثقافيَّةٌ، قديمةٌ حديثة. ذلك أن العقليَّة الشعبيَّة- وإنْ اختلفت الثقافات، وتعدَّدت السياقات، وتباينت ألوان الخطاب- هي عقليَّة عدم معرفة الحقِّ إلَّا بالرِّجال، لا معرفة الرِّجال بالحق. وما تنهض أُمَّةٌ هذا شأنها وتلك غايتها: الدوران ثمَّ الدوران حول فُلان وفُلان. بل إنَّ أُمَّةً هذا منهاجها هي أَلَدُّ أعداء نفسها، وأَبَرُّ ناصري خصومها. وهي، قبل غيرها، تُشوِّه وجهها، وتضع العثرات في سبيل مستقبلها، مدافِعةً عن كائديها، بنحوٍ مباشرٍ أو غير مباشر، سانَّةً السيوفَ بأيديها كي تضعها بأيدي قاتليها. قال صاحبي:
- بل إنَّك لتجد هذا- لدَى العُربان خاصَّة- حتى في مجال العلوم الإنسانيَّة!
- نعم.. ثمَّ خَلَفَ من بعد التبابعة التقليديِّين خَلْفٌ أرادوا احتكار العلوم باسم التخصُّص، جاعلين علوم العربيَّة أحماءً، سُنَّةَ جدِّهم (كُلَيب بن ربيعة).
- ما العلاقة؟
- يُروَى أن كُليبًا بلغ من تغطرس بَغْيِه أنَّه رمَى ناقة (البسوس) لمَّا دخلتْ حِماه من دون إذنه؛ ولأنها خرَّبت عُشَّ (قُبَّرَةٍ) كانت في الحِمَى قد عَشَّشت وباضت.
- رفقًا بالحيوان!
- بل رفقًا بحيوانيَّة الإنسان! فأصحابنا- أدعياء التخصُّص هؤلاء- هم ككُلَيبٍ هذا، يدافعون عن عُشِّ قُبَّراتهم. إيَّاك أن تقترب من حِماهم، أو تنتهك ذِمارهم! يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم! محرِّمين على الناس، من غير أصحاب «الحِمَى»- أو قُل: «كار» الصنعة- الخوضَ في تخصُّصهم، ولو بإبداء الرأي أو تسجيل الملحوظات والتساؤلات. وما بهم من ذلك من شيءٍ، وإنَّما غايتهم قمع المنتقدين، متَّخذين حُجَّة «التخصُّص» العقيم في الدراسات الإنسانيَّة حُجَّةً واهيةً للحفاظ على سلطانهم. ولكي يخلو لهم جَوُّ قُبَّرة (كُلَيب)، التي قال عنها، متمثِّلًا شِعر (طَرَفَة بن العبد):
خَلا لَكِ الجَوُّ فبِيْضِي واصفِري ... ونَقِّري ما شِئتِ أَن تُنَقِّري
- أ لا تؤمن بالتخصُّص؟
- كلَّا لا أؤمن به كلَّ الإيمان في العلوم الإنسانيَّة، إيماني به في العلوم الطبيعيَّة. اللغة، على سبيل النموذج، شأنٌ عامٌّ، (من البَيض والصَّفر والتَّنقير)، وليست بتخصُّصٍ احتكاريٍّ للقُبَّرات اللغويَّة. وهي تَهُمُّ جميع الناطقين، وإنْ لم يكونوا من أبنائها، فضلًا عن الباحثين في مجالاتها. والمتشدِّدون في هذا الحقل إنَّما يردِّدون منطق القُبَّرة الجاهليَّة، رغم آناف علوم اللغة، العامَّة، والتاريخيَّة، والتقابليَّة، والمقارنة، وعلى الرغم من أنَّ الحدود الفاصلة بين العلوم الإنسانيَّة عمومًا ليست بصرامة تلك الحدود بين العلوم البحتة أصلًا. ولم يأخذ بهذا التقوقع المعرفيِّ عقلٌ رشيد، لا في الماضي ولا في الحاضر، لا عند العَرَب ولا عند غيرهم، منذ (الخليل بن أحمد الفراهيدي)- الشاعر، الموسيقيِّ، الرياضيِّ، اللغويِّ، المعجميِّ، النحويِّ، العَروضيِّ- إلى (نعوم تشومسكي)، بنحوه التوليديِّ التحويليِّ، في اللغة ثمَّ في التاريخ والفكر والسياسة.
- لماذا؟
- لماذا؟ لأن الأخذ بـ(أُكذوبة التخصُّص) هاهنا يعني العُقم في الباحث والموت في مادَّة بحثه. بَيْدَ أنَّ الأمر بأَخَرَةٍ لم يعد عِلْمًا، لدَى جماعة (القُبَّرة) المتخصِّصين، بمقدار ما أصبح وظيفةً خاصَّة وارتزاقًا عامًّا. وعندئذٍ لا غرابة أن يدافع كلٌّ عن باب رزقه، وإنْ كان بابًا من أبواب السِّحر والشعوذة، تحت عنوان «شمس المعارف»، ولا أن يَذُبَّ عن حانوته في سوق النِّخاسة المعرفيَّة، وإنْ لم يَعُد له في سوق الحاضر مِن سوق.
- كفانا الله شرَّك!
- بل كفانا الله شرَّ (كُلَيب بن التخصُّص)، في علوم اللغة والنحو والآداب والفنون. لا نعني بذلك الفوضى، أو أن يهرف المرء بما لا يعرف. فهذا شيءٌ، وحكاية محتكري هذه العلوم، بدعوى التخصُّص- حيلولةً دون انتقاد أحبارهم ورهبانهم- شيءٌ آخر. إنَّ اللغة العربيَّة وآدابها تُحوَّل اليوم إلى أحماء، حتى يكاد أحد الكُلَيْبيِّين يتخصَّص في حرفٍ واحد من حروف الجَرِّ، لا يعرف سواه، ينال فيه شهادة الماجستير والدكتوراه، وينفق عُمره وهو يجترُّه صباحًا ومساءً.
- ما العيب في ذلك؟ هذا حريٌّ أن يجعله حُجَّةً في هذا التخصُّص الدقيق.
- العيب عيبان: أن لا يعرف إلَّا تِلْمَهُ الذي هو فيه منذ كان، يُبدئ فيه ويُعيد، لا يهتمُّ بغيره، ولا يبحث. وهذا يجعله غير منتجٍ حتى في ما يعتقد أنَّه تخصُّصه؛ لأنَّ العلوم الإنسانيَّة متواشجة، أو عيتها كالأواني المستطرقة، وليست كالعلوم التي تبحث في الماديَّات، بحيث يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض. والعيب الآخَر أن يعتقد صاحبنا أنَّ ما يسمِّيه تخصُّصه تخصُّصٌ بالفعل، صُلْبُ الجدران؛ فإذا هو يتغنَّى به، ويحظر على غيره زيارته، عادًّا ذلك تطفُّلًا على تخصُّصٍ له أهله، وعُدوانًا على قُبَّرة (كُلَيب بن التخصُّص).
- وفي «أهله» هذه مربط الفرس!
- بالضبط. فمعظم هؤلاء المتعصِّبين، المتدرِّعين بدِرع «التخصُّص»، هم في الواقع من أرباب «التشخُّص»، لا التخصُّص.
- ماذا تقصد؟
- هم يدافعون عن أشخاصهم، ووظائفهم، وعن أشخاص أشياخهم، وأسلافهم، الذين يرونهم فوق النقد أو الاستدراك أو المساءلة. فهم أبعد ما يكنون عن العِلم، والموضوعيَّة، والخدمة الحقيقيَّة للحقل الذي ينسبون أنفسهم إليه. جُلُّ ما تجدهم يُحسِنون: الطَّوافُ حول إمامهم فلان، والسعي بين صَفا علَّامتهم فلتان ومَرْوَته.
- وأولئك هم الأحفاد الثقافيُّون لجَدِّهم، الشاهر لسانه بالقول: «كذَّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مُضَر!»
** **
(رئيس الشؤون الثقافية والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة الملك سعود)