د.بكري معتوق عساس
من محاسن الشريعة الإسلامية ومكارمها الصدقة الجارية، وقد حمل قدماء العلماء الصدقة الجارية على أنها تعني «الوقف»، وصنفوا الوقف ذاته في باب «مكارم الأخلاق»، ونظرة الإسلام للأخلاق نظرة علمية، تترجمها التصرفات الحسنة، وأعلى مراتب التصرف الحسن هو جلب المنفعة للآخرين ومن أعظم المنافع وأعلاها منزلة نشر العلم وإزاحة الجهل.
لذلك كان المتصدقون بالأوقاف هم رعاة العلم ونشر المعرفة فقد أسهمت الأوقاف في بناء المدارس والمكتبات والكليات والمعاهد والجامعات. وعلى الرغم من أن العالم الإسلامي عرف دور الوقف العلمي منذ قرون مضت في دعم التعليم وبخاصة التعليم الجامعي، إلا أنه لم يستمر طويلاً، في حين حافظت الدول الغربية على تنمية الأوقاف التعليمية لديها حتى أصبحت جامعاتها تعتمد عليه بشكل أساسي كأحد مواردها الذاتية. وبذلك ظهر ما يُسمي بالجامعات الوقفية التي تعتمد على الهبات والأصول التي يتبرع بها الأفراد للجامعات حتى تتمكَّن من أداء دورها علي أكمل وجه.
وبالنظر إلى الجامعات الوقفية نجد أنها تتصدر أفضل الجامعات على مستوي العالم. فجامعة هارفرد، التي قام بتأسيسها «جون هارفرد» في سنة 1636م تعتبر من أقدم الجامعات الوقفية الأمريكية، بدأت باء ثني عشر طالباً فقط، ومن تلك البداية المتواضعة تطورت عبر مسيرة طويلة حتى أصبحت اليوم أكبر جامعة وقفية في العالم وبلغت قيمة أصولها الموقوفة عليها أكثر من 36 مليار دولار، وميزانيتها التشغيلية السنوية بلغت 28 مليار دولار، وهذا الرقم يفوق مجمل ميزانيات الجامعات العربية في وقتنا الحاضر. إن الجامعات الوقفية لم تغتن بفضل المنح الدراسية وغيرها من الهبات فحسب، بل اغتنت فوق ذلك بفضل ارتفاع قيمة الضياع التي حبست عليها. ولأهمية الوقف على هذا النحو في بعض الجامعات الغربية، أصبح أحد معايير تقييم المرشحين لرئاستها هو «قدرته على تحصيل أوقاف جديدة لصالح الجامعة».
وكنوع من الوفاء نجد أن الجامعات العالمية، لا تزال تحمل أسماء مؤسسيها الذين تبرعوا بأموالهم وأوقافهم، وخصصوا ريعها للإنفاق عليها، مثل ييل وستانفورد والكلية الجامعية بلندن وأكسفورد وكامبردج والمعهد السويسري للتكنولوجيا والتجربة الأسترالية كجامعة ملبورن ومن التجارب الآسيوية جامعة ماليزيا للعلوم والتكنلوجيا.
وبدون أدني شك فإن مستقبل الجامعات التي تعتمد على الدعم الحكومي (الميزانية) في ظل الدورات الاقتصادية في خطر، فيجب عليها سرعة العمل على إيجاد مصادر مالية بديلة حتى تتمكّن من تخريج كفاءات متميزة تساهم في بناء الوطن.
ومن جانب آخر يجب على الجامعات الاهتمام بنشر ثقافة (فقه الوقف) بين أفراد المجتمع من خلال تدريس التخصصات المرتبطة به والتي تسهم في تحقيق التنمية العلمية.
قال ابن الجوزي -رحمه الله: «اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل».