سليمان الجاسر الحربش
يصادف هذا الأسبوع مرور خمس وأربعين سنة على إنشاء صندوق أوبك للتنمية الدولية أوفيد OFID. وهو المنظمة الإنمائية التي أسستها الدول الأعضاء في منظمة أوبك عام 1976 لمساعدة الدول النامية في التغلب على مشكلات التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
يشرفني أن أكون شاهدًا على قيام هذه المؤسسة ورسالتها النبيلة مراقبًا ومتابعًا لنشاطها إلى أن حالفني الحظ فانضممت إليها مديرًا عامًّا لمدة خمسة عشر عامًا، كانت من أحلى سنوات العمر. لعل الظروف تسمح بمزيد من الشرح في وقت لاحق.
في مطلع عام 1975 كنت في فيينا عضوًا مع الوفد السعودي لحضور مؤتمر أوبك الذي كان همه الأساسي النظر في أجندة أول قمة تعقدها الدول الأعضاء بدعوة من الرئيس الجزائري هواري بو مدين.
وجهني معالي الوزير برسالة مكتوبة منه إلى الملك فيصل وتسليمها للأمير فهد بن عبدالعزيز (النائب الثاني قي ذلك الوقت). أغلب الظن أن فحوى الرسالة تدور حول أجندة القمة الموعودة، وعلى وجه الخصوص إنشاء مرفق لمساعدة الدول النامية. وقد سألت معالي الوزير فيما بعد عن هذه المسألة بالذات فلم ينفِ أن يكون هذا هو موضوع الرسالة.
في صباح اليوم التالي كنت في بوابة قصر الأمير فهد. انتظرت إلى أن خرج متجهًا إلى قصر الحمراء حيث يداوم الملك فيصل - رحمه الله -. سلمت عليه، وسلمته الرسالة وهو في سيارته، معه في المقعد الخلفي حارسه الخاص محمد بن حمدان (أبو رائد) الذي أسدى لي ما أحتاج إليه من خدمات عندما لاحظ أنني أحتاج إلى بعض التوجيه في التعامل مع «الشيوخ». أخذ الأمير الرسالة، وطلب مني أن أتبعه إلى القصر، وهناك طلب مني أن أرافقه غدًا إلى حيث تنعقد القمة. بمعنى أن عضويتي في وفد المملكة كانت بتوجيه من الأمير فهد - رحمه الله -، وكانت رحلة لا تخلو من طرافة أشرت إلى بعضها في مقال نشرته هذه الجريدة في رثاء الملك الراحل (الجزيرة 3-8-2005).
انعقد المؤتمر خلال الفترة 4-6 مارس 1975، وأصدر بيانًا، تضمن من بين بنوده استعداد دول الأوبك لمساعدة رصيفاتها من الدول النامية في مساعيها للنهوض بشعوبها مما تعانيه من فقر وتخلف، وكان للمملكة الفضل الأكبر في صياغة البيان، وعلى وجه الخصوص هذه الفقرة.
وقد تكرر هذا التعهد في القمم اللاحقة، وآخرها تلك التي استضافتها المملكة في نوفمبر 2007.
لم يقرر الملوك والرؤساء إنشاء صندوق أوبك في قمة الجزائر كما يظن البعض. الذي حدث في الجزائر هو ميلاد الفكرة أما قرار إنشاء الصندوق فقد تم في باريس في 28 يناير 1976، ونص في ديباجته على أن إنشاء الصندوق يأتي تجاوبًا مع روح الإعلان المهم لملوك ورؤساء الدول الأعضاء في الأوبك الصادر في الجزائر في مارس 1975 حول دعم وتشجيع التنمية الاقتصادية للدول النامية كافة.
لم يكن الصندوق وشؤونه يعنينا في وزارة البترول بشكل مباشر، لكن مخرجات القمة كانت من بين القضايا التي كنت أتابعها بتوجيه من رئيسي المباشر المرحوم فاروق الحسيني الذي كنت أصحبه في مؤتمر الشمال والجنوب الذي انعقد في باريس في أواخر عام 1975 حتى شهر إبريل من عام 1977 بين الدول الصناعية والدول النامية والدول الأعضاء في منظمة أوبك، وكان يعالج قضايا التنمية والتمويل والطاقة، وقد شاركت فيه المملكة وبعض الدول الأعضاء في أوبك انطلاقًا مما تعهدت به في بيان قمة الجزائر.
في عام 2002 فاتحني معالي الوزير علي النعيمي برغبة معالي وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف لترشيحي في منصب المدير العام لصندوق الأوبك خلفًا للدكتور سيد عبدالله الذي قضى في المنصب عشرين سنة.
في 11 يونيو 2003 وافق الوزراء في دورتهم العادية في أبو ظبي على ترشيحي.
تشرفت بالسلام على خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بحضور معالي الأخ إبراهيم العساف الذي قدمني مشكورًا للملك، ثم شددت الرحال إلى فيينا لا أحمل في يدي من التعليمات سوى برقيتين، الأولى
صادرة عن رئيس مجلس الوزراء الملك فهد - رحمه الله - موجهة لوزير البترول والثروة المعدنية، ونسخة لصاحبَي السمو الملكي وزيرَي الداخلية والخارجية ومعالي وزير المالية. البرقية تتضمن موافقة المقام السامي على ترشيحي، لكن في آخرها عبارة يخيل إليّ أن الملك أملاها بنفسه، وهي تقول: «نخبركم بأنه لا مانع. علمًا بأننا لم نسمع من أي دولة بأن الصندوق ساعدها، وقد يكون هذا خللاً في المجال الإعلامي لأوبك؛ فأكملوا اللازم».
أما البرقية الثانية فهي صادرة عن معالي وزير المالية بالنيابة (المرحوم الدكتور عبدالعزيز الخويطر) بتاريخ 6-7-1424هـ الموافق تقريبًا 3-9-2003 إلى رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز حول الخطوط العريضة للظهور الإعلامي المطلوب للصندوق، ومن ذلك:
- التوقيع على القروض الميسرة المقدمة من الصندوق في عواصم الدول المستفيدة.
- إعداد فيلم وثائقي عن نشاط الصندوق في الدول النامية بعدد من اللغات.
- الجائزة السنوية.
• هذه البرقية تحتل مكانة خاصة في قلبي لما ورد فيها من ثناء عليّ قبل أن أستلم المنصب؛ فهي تقول إن سمعة الصندوق وحضوره «سوف يتعززان بعد تولي سليمان الحربش رئاسته لما عُرف عنه من نشاط وديناميكية».
• من يقرأ تلك البرقيات واهتمام القيادة العليا بقضايا التنمية الدولية يتساءل عما إذا كان هذا الحرص يعود إلى أن ما تقدمه المملكة من عون لا يعدو أن يكون أداة من أدوات سياستها الخارجية كما هو الحال في بعض الدول؟ هذا موضوع قد يحتاج إلى مقال مستقل.
• بعد شهرين من مباشرتي وضعنا الخطوط العريضة لأول حملة إعلامية، تلتها حملات أخرى. نفذنا البنود الثلاثة السابقة حرفيًّا، وأصبحت الجائزة السنوية - وهي لا تتعدى مئة ألف دولار - أحد المعالم المميزة لنشاط الصندوق.
• منحناها لمراكز السرطان في مصر والأردن، وللفتاة الباكستانية ملالا الناشطة في مجال تعليم الإناث التي كادت تفقد حياتها في حادث إرهابي، ومنحناها للدكتور الجراح مازن الهاجري من الإمارات الذي يجري عمليات زراعة القوقعة لأطفال غزة الذين فقدوا السمع من جراء القصف الإسرائيلي الغاشم على منازلهم، ومنحناها لأسر السجناء الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، وللفتاة السورية دعاء الزامل التي نجت من أحد قوارب اللاجئين السوريين وأنقذت معها طفلين بعد أن غرق أهلهم وخطيبها أمامها، وغير ذلك.
• ونالت فلسطين قسمًا كبيرًا من المنح، شملت وحدة الجراحة في المستشفى الأهلي بمدينة الخليل التي تحمل اسم الصندوق المختصر، وهو أوفيد. كما نال عدد من المرافق في القدس نصيبه من نشاطنا، من ذلك تمويل مشروع توثيق وأرشفة سجلات المحاكم الشرعية في القدس مع الجامعة الأردنية بإشراف المؤرخ الدكتور عدنان بخيت. ويهدف المشروع إلى الحفاظ على الهوية العربية للمدينة، وتمويل مدارس البنات في مخيم شعفاط بالتعاون مع وكالة غوث اللاجئين، وترميم المنازل الآيلة للسقوط في المدينة المقدسة، وتمويل مشاريع الطاقة الكهربائية في عدد من المستشفيات. وقد تم معظم هذه المنح خلال زيارتي لفلسطين في إبريل 2014، كما ساهمنا بتمويل إعادة إعمار مخيم نهر البارد، وساهمنا ببناء وتجهيز وتأثيث أربع مدارس، ومركز تأهيل مهني.
• هذه الحملات الإعلامية تطلبت إعادة النظر في هوية الصندوق. وقد لاحظت منذ البداية الفهم الخاطئ لتبعية الصندوق من الناحية القانونية؛ فهو منظمة دولية معترف بها في الأمم المتحدة، وله اتفاقية مقر مع الحكومة النمساوية على قدم المساواة مع بقية المنظمات المقيمة، وهو - كما تقول الفقرة الأولى من نظامه الأساسي - مملوك للدول الأعضاء في أوبك، وليس لأوبك نفسها.
• كذلك فصمنا علاقة التبعية مع البنك الدولي، وأبرمنا معه مذكرة تفاهم وقعتها في مقر البنك مع مديره العام بحضور وزير المالية السعودي ومحافظ البنك المركزي (ساما)، وأصبح البنك يعاملنا على قدم المساواة كغيرنا من صناديق التنمية، كما أصبحنا نحتل المقدمة بين صناديق التنمية العربية. يؤكد ذلك انعقاد الكثير من اجتماعات الصناديق في مقر أوفيد.
ولتأكيد شخصية الصندوق صممنا له شعارًا خاصًّا به، يتناسب مع رسالته النبيلة، وسجلناه لدى الجهة المختصة في فيينا بعد أن كان شعارنا مزيجًا من شعار أوبك والبنك الدولي. وتطلب الأمر أيضًا أن يكون لنا اسم يميزنا كما هو الحال في المنظمات الدولية، • وكان هذا الاسم جاهزًا، وهو الأحرف الأولى من الاسم باللغة الإنجليزية، وهو بكل بساطه OFID، وعند نطقه يتحول إلى فعل مضارع باللغة العربية الفصحى. وأضفنا إلى هذا الاسم وتحت الشعار المذكور شعارًا فرعيًّا من صلب الرسالة النبيلة التي يضطلع بها أوفيد، هو: «متحدون ضد الفقر» أو Uniting Against Poverty.
• وقد سبقنا بهذا الشعار الفرعي الأمم المتحدة التي تبنته فيما بعد؛ ليصبح الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة. هذا الاسم المختصر ورد أكثر من مرة في البيان الختامي للقمة الثالثة التي عُقدت في الرياض.
• أما القضية الإنسانية الكبرى التي ارتبطت باسمنا على مستوى المنظمات التنموية فهي حملتنا للقضاء على فقر الطاقة الذي تبنته حكومتنا الرشيدة، وقمنا بتحويله في أوفيد إلى خطة عمل، وأسميناه الهدف التاسع المفقود إشارة إلى أن أهداف الألفية الثمانية تصدت لكل أوجه الفقر ما عدا فقر الطاقة.
• والخلاصة التي أنقلها بكل الحب والاحترام لمن يهمه أمر صندوق الأوبك (أوفيد) في الرياض أو فيينا أن كل ما قمنا به من حملة إعلاميه كان تنفيذًا للتعليمات السامية التي ساءها أن تبقى هذه المنظمة ورسالتها النبيلة خلف الستار.
• وأضيف بأنه نتيجة لما قمنا به من إصلاحات أخرى نلنا ثناء وثقة أعلى سلطة في أوفيد، هي المجلس الوزاري الذي وافق على منحنا مليار دولار في عام 2011 بعد ما يزيد على عشرين عامًا على آخر دفعة من مساهمات الدول الأعضاء في وقت ما زالت فيه الأزمة المالية ترخي سدولها على العالم.
• كما أضيف بأن كل ما استطعت أن أنفذه كان بفضل التعاون وفِرق العمل التي تكونت من عدد من الموظفين الذين آمنوا برسالة أوفيد، وأصبحت جزءًا من زادهم اليومي.
• إن قيادة ما يقرب من مئتَي موظف من الجنسين ينتمون إلى أكثر من ثلاثين دولة وثقافة ليست بالأمر السهل ما لم يستقطبهم هدف واحد، وما لم يشعر كل واحد منهم بأنه جزء من الحل. وهذا هو ما تمكنا من تحقيقه بفضل الله، ثم بفضل نشر ثقافة الاحترام المتبادل بين الإدارة والموظفين كافة. وهو مشروع مستقل، تطلّب إقامة ورش للتدريب خارج مقر الصندوق، يحاضر فيها متخصصون في الإدارة والقيادة وآخر ما توصل إليه خبراء الموارد البشرية من أفكار حول استغلال القدرات الكامنة عند الأفراد. هذا البرنامج كان قصة نجاح في حد ذاته؛ إذ إنه حفز روح الانتماء عند الموظفين كافة الذين أصبحوا يعملون كأسرة واحدة، يجمعها هدف نبيل واحد، هو مد يد العون للفقراء والمعوزين في أنحاء المعمورة كافة بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو الإقليم.
• وأخيرًا أوضح لفائدة القارئ السعودي أن أوفيد كان منصة أثبتنا من خلالها أن السعودي قادر على تحمّل المسؤولية خارج الحدود. لقد كان عدد السعوديين في عام 2003م لا يتجاوز اثنين، وبعد فترة أصبحوا ثلاثة عشر، يشكلون عشرين في المئة من فئة المهنيين، منهم خمسة في وظائف قيادية عليا.
* عامًا سعيدًا، وعمرًا مديدًا يا (أوفيد)، يا مهد الذكريات الشامخة.. كم كنت واجهة جميلة لبلادي الحبيبة، رمز الوفاء والعطاء والحب!!
- وللحديث بقايا.