أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
في هذا اليوم المبارك يوم الجمعة يأتي الحديث عن سورة يوسف، أرجو منك أن تستمر بضعة أيام:
قال أبو عبدالرحمن: من وقفاتي هذا اليوم الاستنباط من الآيات الكريمة من سورة يوسف، ومقدارها نصف جزء؛ وإليكم ما ألَّفته عن الإمام (أبو محمد ابن حزم الظاهري) -رحمه الله تعالى- في كتابه (الفصل) 2 /285- 391، وقد صدر نشرًا، وطبعًا، وتوزيعًا من دار الحديث في القاهرة عام 1431 هجريًا/ 2010 ميلاديًا: وذكروا (يعني الكرامية ومن وافقهم)؛ وأيضًا أخذ يوسف عليه السلام أخاه، وإيحاشه أباه عليه السلام منه، وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره؛ وهو يعلم ما يقاسي من الوجد عليه، فلم يفعل، وليس بينه وبينه إلا عشر ليال؛ وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه، ولم يعلم بذلك سائر إخوته، ثم أمر من هتف بقول الله سبحانه وتعالى: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (سورة يوسف/ 70)؛ وهم لم يسرقوا شيئًا؛ وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (سورة يوسف/ 24).
قال أبو عبدالرحمن: وبخدمته فرعون، وبقوله للذي كان معه في السجن: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (سورة يوسف /42).. قال أبو محمد ابن حزم الظاهري - رحمه الله تعالى: وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه، ونحن نبيِّن ذلك بحول الله تعالى وقوته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود إخوته إليه، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى، وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام، ولا لملك مصر هنالك، وليكون ذلك سببًا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم، ولا سبب إلى أن يظن برسول الله يوسف عليه السلام الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه، وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا، ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه؛ فكيف برسول الله صلوات الله عليه؟.. وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل؛ فهذا جهل شديد ممن ظن هذا؛ لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر، وطاعة أخرى، ودين آخر، وأمة أخرى؛ كالذي بيننا اليوم وبين من يضافينا من بلاد النصارى كفاليش وغيرها، أو كصحراء البربر؛ فلم يكن عند يوسف عليه السلام، علم بعد فراقه أباه بما فعل، ولا حي هو أو ميت، أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به، ولا وجد أحدًا يثق به، فيرسل إليه؛ للاختلاف الذي ذكرنا؛ وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد، وملة واحدة، ولسانًا واحدًا، وأمة واحدة، والطريق سابل، والتجار ذاهبون وراجعون، والرفاق سائرة ومقبلة، والبرد ناهضة وراجعة؛ فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك، ولكن كما قدمنا.. ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه، وانقيادهم له للجوع الذي كان عمَّ الأرض، وامتيازهم عنده؛ فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب، فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه، ورُبَّ رئيس جليل شاهدناه من أبناء البشاكس والإفرنج لو قدر أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بدارًا إلى ذلك، ولكن الأمر تعذر عليهم تعذرًا أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع؛ فهذا كان أمر يوسف عليه السلام؛ وأما قول يوسف لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (سورة يوسف /70)؛ وهم لم يسرقوا الصواع؛ بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم؛ فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه،ولم يقل عليه السلام: إنكم سرقتم الصواع، وإنما قال: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} (سورة يوسف /72)؛ وهو في ذلك صادق؛ لأنه كان غير واجد له، فكان فاقدًا له بلا شك، وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقيَّة، وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره، ولعل الملك أو بعض خواصه، قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس؛ إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك، ولا مرية في أن ذلك كان مباحًا في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (سورة المائدة/ 48)، وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورًا في شريعتهما بل كان فعلاً حسنًا، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى، ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام؛ إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل، وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك.. وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (سورة يوسف /42)؛ فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل؛ لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه؛ وهذا فرض من وجهين: أحدهما وجوب السعي في كف الظلم عنه.. والثاني دعاؤه إلى الخير والحسنات.. وأما قوله تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (سورة يوسف/ 42)؛ فالضمير الذي في (أنْساهُ)؛ وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن، أي: أن الشيطان أنْساهُ أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام.. ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى، ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام، وبرهان ذلك قول الله عز وجل: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أمة} (سورة يوسف /45)؛ فصح يقينًا أن المذكر بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر، وحتى لو صح أن الضمير من (أنْساهُ) راجع إلى يوسف عليه السلام؛ لما كان في ذلك نقص ولا ذنب؛ إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء.. وأما قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (سورة يوسف/ 24)؛ فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتآخرين من قال: (إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة)، ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمينومستوريهم؛ فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن قيل: إن هذا قد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد، قلنا: نعم، ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمَّن دون ابن عباس، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك؛ إذ إنما أخذه عمَّن لا يدرى من هو، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره؛ لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله، ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به؛ لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين: إما أنه هم بالإيقاع بها وضربها، كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أمة بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} (سورة غافر/5)، وكما يقول القائل: (لقد هممت بك)؛ لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قَدِّ القميص. والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} (سورة يوسف/ 24)؛ ثم ابتدأ تعالى خبرًا آخر؛ فقال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (سورة يوسف/ 24)؛ وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل، وبهذا نقول.. وبرهان ربه هاهنا: هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة، وهذا لا شك فيه، ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف، ينَزِّه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك.. وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن؛ إذ قال للأنصاريين حين لقيهما: (هذه صفية)، ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هَمَّ بالزنى وهو يسمع قول الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} (سورة يوسف/ 24)؛ فنسأل من خالفنا عن الهمِّ بالزنى: سُوءٌ هو أم غير سُوءٍ؟ فلا بد أنه سُوءٌ، ولو قال: إنه ليس بسوء لعاند الإجماع، فإذ هو سوء، وقد صرف عنه السوء، فقد صرف عنه الهمَّ بيقين.. وأيضًا فإنها قالت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا} (يوسف/ 25)، وأنكر هو ذلك فشهد الصادقُ المُصدِّقُ: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} (سورة يوسف/ 27)، فصح أنها كذبت بنص القرآن، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سُوءًا، فما هَمَّ بالزنى قط، ولو أراد بها الزنى لكانت من الصادقين، وهذا بيِّن جدًا، وكذلك قوله تعالعنه أنه قال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} (يوسف/33)، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} (سورة يوسف/ 34)؛ فصحَّ عنه أنه لم يصب إليها ألبتَّة.
قال أبو عبدالرحمن: انتهى كلام الإمام ابن حزم عليه - رحمه الله تعالى؛ وللحديث بقية إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -