الهادي التليلي
إذا كان مفهوم ما بعد الحداثة الذي ظهر بشكل رسمي وموضوعي مع الفيلسوف جان فرنسوا ليوتارد ويعني وضع السرديات السائدة ويعني بها الأيديولوجيات القائمة ومنتجات العالم المعاصر وما رافقها من مجتمعات صناعية تغولت على الإنسان وهددت وجوده ومستقبله والتي في الحقيقة كانت استفادة من درس نتائج الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار وتلوث على البشرية وهددت مستقبلها وتجسدت مخرجات ما بعد الحداثة في ستينات القرن الماضي في الفنون التشكيلية والعمارة وسائر الإبداعات الجمالية الأخرى, فإننا نرى أن تحقق ما بعد الحداثة الحضرية لم يتحقق بعد بل هو بصدد التحقق من خلال مشروع نيوم وتحديداً «ذا لاين» حلم العالم والحداثة البديلة والنظيفة.. إنها العلاج لأمراض العالم المعاصر والتي تقادمت دون حل.
في الحقيقة إن التحديات الكبرى التي تواجهها البشرية هي العجز على إعادة صياغة مفاهيم جديدة توائم بين الهوس العلمي بالسير نحو كل ماهو مختلف وجديد ومبهر ومجسد لحاجات الإنسان من رفاه وسعادة من ناحية والفاتورة البيئية الباهظة التي أفرزت ثقب الأوزون وهددت صحة وسلامة الإنسان حيث صارت الصناعة والتطور شكلاً من أشكال الانتحار الجماعي مما أدى إلى ظهور نزعة جماعية للتحرر من المجتمع الصناعي بحثاً على بدائل يمكن أن تعوض وسائل الإنتاج الملوثة للبيئة.
وفي الواقع التسابق نحو الزعامة الاقتصادية والصناعية وبراغماتية المجتمع المعاصر الذي غلب عليه هاجس الربح والأرقام أنسى البشرية والمجتمعات المعاصرة لوقت ما التفكير في شيء هو أهم من حرب النجوم وما أفرزه التسابق على تلويث الفضاء الخارجي بكم هائل من الأقمار الصناعية التي يعرف العالم أصل وفصل بعضها ويجهل وجود وما تفعل غيرها، كما أثبت الواقع أن الصناعات السائدة في المجتمع الحديث لم تراع أمن ومستقبل الإنسان والإنسانية ومع ذلك لم تقدم التطور المنشود لأن العلم في جوهره إنساني وكل تطور لابد أن يكون الإنسان علامة أساسية في سيميائه ورقماً وازناً في معادلته، والإنسان المقصود هنا ليس ما أفرزته النمذجة المعاصرة التي تشيئه إلى رقم وحسابات بل معنى وجوهر كل تقدم وأساسه وهو المشغل الذي ناضل من أجله المجتمع المدني من منظمات وجمعيات ومؤسسات اختارت رهان البيئة برنامجاً لحربها ضد المجتمع المتغول على الإنسان مطالبين بتنمية مستدامة غير متعالية على الإنسان وبصناعة تحترم البيئة غير ملوثة، وتحركت المنظمات غير الحكومية في هذا الاتجاه فاستشعرت الحكومات الخطر خاصة بعد ثبوت ثقب الأوزون فصرنا نتحدث عن قمم الأرض حتى صارت مسألة التلوث المحور الرئيسي لأسئلة التنمية في ملتقى دافوس ومن أهم محاور قمم محموعة العشرين وآخرها التي انعقدت بالمملكة العربية السعودية والتي من أبرز مخرجاتها مبادرة السعودية للاقتصاد الدائري الخالي من الكربون حفاظاً على كوكب الأرض كباب أول للدخول إلى مستقبل حضري خال من الكربون، وذلك سعياً لبناء نماذج اقتصادية تدعم الاقتصاد وتحافظ على الإنسان، وفي الحقيقة السعودية وهي تستعد لتسليم المشعل لإيطاليا في قمة العشرين سلمتها مفتاحاً لعبور محطة القمة 21 التي ستعقد بباري الإيطالية بسلام ألا وهو الرهان البيئي قصد تحقيق مجتمع حضري كوني نظيف، وفعلاً وصلت الرسالة التي تلقفها بذكاء رئيس وزراء إيطاليا جوزيبي كونتي وهو يستعد لحمل أمانة قمة مجموعة العشرين بعد أن رفعت السعودية سقف النجاح فيها، مصرحاً بأن مبادرة السعودية رائعة وفي وقتها و»بصفتنا رئيس الدورة القادمة لمجموعة العشرين سنركز على علاقة الطاقة المناخية قصد تحقيق انتقال سريع إلى مستقبل خال من الكربون والأساس للاقتصاد الطبيعي»، يقول كونتي هذا وإيطاليا التي أثقلتها جائحة كورونا تراهن على مجتمع خال من الكربون في مفتتح 2050 .
في واقع الأمر السعودية لم تقدم مشروعها الريادي كمقترح مجمع عليه لاقتصاد دائري خال من الكربون قولاً بمناسبة وإنما هو جزء من رؤيتها 2030 والتي تعد نيوم NEWM واحدة من منجزاتها، ونيوم التي هي أكبر من أن تكون مدينة حضرية مختلفة محلقة خارج السرب هي إنتاج لمعنى جديد وبناء لبديل فكري وثقافي مغاير، إنها صناعة المعنى والبدائل، فنيوم والتي هي مزج بين الدلالة الإغريقية NEO وتعني الجديد وميم المستقبل باللغة العربية كمرجعية على الحلم العربي في التنمية والتطور المختلف وتواصل في العمق الحضاري نحو الجهد الحداثي والتجديد، إنها ليست مدينة أفلاطون الفاضلة المدينة المختلفة في قيمها ومثلها والكائنة في عالم علوي إنها مدينة واقعية أعلن انطلاق مشروعها ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان في 24 أكتوبر 2017 وتقع في أقصى شمال غرب السعودية على ساحل البحر الأحمر وتقع في تجاور المملكة مع كل من مصر والأردن كما تربط بين ثلاث قارات هي آسيا وإفريقيا وغير بعيدة عن أوروبا كما أن مساحتها الإجمالية 460 كلم مربع وهي ليست حلم فيلسوف مثالي أو شعاراً سياسياً إنها منجز واقعي قيد التشييد حيث تكونت لها شركة نيوم سنة 2019 وتعنى بعمليات التطوير والإشراف وتأسس بها مطار هو في الحقيقة نواة لشبكة من المطارات التي ستربط المنطقة بكل دول العالم، هذا المطار الذي استقبل أولى رحلاته في يناير 2019 بطائرتين أقلتا 130 موظفاً في المشروع، هذا المشروع الذي ينتظر أن ينتهي قسطه الأول في 2025 كما ينتظر كذلك أن تكون سنة 2030 وهي نقطة تحقق الرؤية لحظة الطرح العام لأسهمها في الأسواق العالمية. هذا المشروع الحلم والتاريخي والذي رصد له ما يزيد عن نصف تريليون من الدولارات سيغير لا مجرى المنطقة وإنما مجرى العالم إلى ما بعد الحداثة الحضرية، حيث سيكون مجال التنقل الذكي وصناعة التقنيات عالية الدقة والصناعات الحيوية والطبية والبحوث الجينية والنانو والطباعة ثلاثية الأبعاد والصناعات الغذائية بمواد بديلة وعالم الروبوتات المحاكية والمشاريع الإعلامية بما يعبرعنها ميغا ميديا MEGA MEDIA إضافة إلى صناعات سينمائية ودرامية ذات جودة متجاوزة للسائد. إنها فعلاً حلم جديد ولحظة الوقوف على تخوم ما بعد الحداثة الحضرية وهنا تستوقفنا المحطة الأهم في المشروع والتي أعلن عنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مفتتح 2021 وهي «ذا لاين» THE LIGNE هذا الخط السياحي الديد في مسار الخط العالمي والذي يعد تحولاً جديداً في الفكر السياحي العالمي وبناء لمفهوم جديد في الحركة والتنقل وتركيز منظومة مجتمعية حضرية نظيفة وأكثر سرعة. إنها مدينة سياحية ما بعد حداثية تتغير فيها معادلة السرعة والمكان والمجتمع. إنها دخول لحضارة مغايرة بلا صناعات ملوثة وبسياحة مؤنسنة تحافظ على البشرية وتتصالح مع البيئة في نطاق تنمية مستدامة يكون فيها الإنسان رأسمال حقيقي لامجرد رقم في معادلة متشعبة تدرك منطلقاتها وتجهل عواقبها على البشرية وهو ما ترجم حدوث كوارث مثل الحروب العالمية أو جوائح وأوبئة مثل كورونا والطاعون والجذام وغيرها. هذه الحضارة التي قال عنها بول سيزان كالتفاحة التي دخلها السوس تراها سليمة جميلة ولكنها تتآكل من الداخل كلما ازدادت بقاء كلما اقتربت من فنائها إنه زواج فتنة التطور الصناعي بالفناء الناتج عن إهمال الإنسان.
«ذا لاين» هذا الخط السياحي الأجمل والتي تمتد على طول 170 كلم وتتوزع عمودياً إلى ثلاثة مدارات السفلي هو مدار «ذاسباين» ومعد لوسائل النقل والشحن فائقتا السرعة والمسيرة بالذكاء الاصطناعي وتنتمي للجيل القادم من تقنيات الشحن والتنقل، والطبقة الثانية هي طبقة الخدمات، والطبقة الثالثة هي طبقة المشاة بحيث تستطيع أن تقطع مساحة 170 كلم في أقل من 20 دقيقة مع المحافظة على البيئة النظيفة، كما أن الوصول إلى مختلف المرافق لا يتجاوز الـ 5 دقائق مشي على الرجلين. هذه المدينة ستكون بلا مركبات ولا دخان في هذه المعادلة الخضراء والمرافق السكنية متعددة الاستعمالات والمصممة بشكل يراعي الفلسفة الحضرية البديلة التي تنتفي فيها الشوارع، عالم تتزاوج فيه التكنولوجيا المتطورة مع البيئة إنها التنمية المستدامة والعقل السعودي الجديد الذي يتطلع لغد أجمل هو غد ما بعد الحداثة الحضرية الذي تترابط فيه المنظومة بشكل رقمي، كما ترتبط لوجستياً مع بقية مناطق المملكة هذا التطور الأخاذ المحاور لجمال المكان حيث جبل اللوز كثير الالتواءات وطبقاته الصخرية السميكة وحيث تعد الصحراء رابطاً بين شمال المشروع وجنوبه. هذا المشروع هو فعلاً حلم العالم نحو الجمال وهنا نستحضر قول انطوني فيفس ANTONI VIVES «مشروع حلم يلتقي فيه التطور والإنسانية والتحدي» وقول GIOVANNA CARNAVALI إنه يوائم بين التطور والحياة النظيفة التي تراعي الإنسان والمجتمع، ورأي بول مارشال PAUL MARSHALL في حواره مع المستشارة الدولية المعتمدة في مجالات السياحة والتنمية ANITA MENDIRATAA بكونه المشروع الذي تتحقق فيه معادلة التطور التكنولوجي وحق الإنسان في بيئة نظيفة.
هذا المشروع الذي هو في الواقع تحقيق لأحلام أجيال من البشرية عانت من تغول المجتمعات الصناعية وتوحش الحضارة التي أهملت الإنسان، فكأنما ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وهو يعلن شخصياً عن هذا المشروع يقول لكل هذه الأجيال تحلمون فنحقق.