عبدالوهاب الفايز
عندما أُعلن قرار توطين المهن المحاسبية الشهر الماضي، ربما كثيرون مثلي تذكَّروا لحظتها الدكتور عبدالرحمن الحميِّد. قلت: هذه فرصه للاتصال على (أبي معتز) لنفرح معه بهذه الخطوة الحكومية. ولكن حالت ظروف دون أن نسمع صوتاً وطنياً يفرح بالتوطين الذي جعله حلمه وهمه، ورسالة أخلص لها في العشرين عاماً الماضية.
من عرف الدكتور الحميِّد، رحمه الله، يعرف أن الفرحة لن تسعه، فتولّد الفرص الوظيفية أمام أكثر من عشرة آلاف خريج وخريجة في المحاسبة مكسب إنساني، ومكسب وطني لأنه يتحقق في مهنة نحتاجها بشدة لكي نعزِّز مشروع ولي الأمر لإرساء حقبة تكريس الشفافية والنزاهة.
رحم الله الدكتور عبدالرحمن الحميِّد، رحل عنا ليتركنا نفتش في الدفاتر والأوراق والأماكن عن إنجازاته الوطنية والإنسانية. خلال الخمسة والعشرين عامًا التي عرفته فيها، وفي اللقاءات المطولة والعابرة في مكتبه، في بيته أو في المناسبات العامة.. تكون الفرصة الذهبية لتخرج بأمر جميل مفيد ينفع الناس من هذا الإنسان الكبير في علمه وتجربته ورجاحة عقله.. والأهم قلبه الكبير.
عندما حاولت تذكّر الأفكار والمشاريع والأحلام التي كان الراحل يضعها في أولوياته وشغفه ويسعى لها رغم المصاعب المفروشة في دروب الإصلاح والتطوير، وجدت أمامي قائمة تطول. إنجازاته العلمية والبحثية والمهنية التي وضعته في قائمة خبراء المحاسبة والمراجعة العالميين. إنجازاته لإرساء المهنة في المملكة على ممارسات وأخلاقيات ثابتة وصارمة عبر حمايته للتأهيل المهني من الاختراق حين رأس لجنة اختبارات الزمالة السعودية لمدة خمسة عشر عامًا. إنجازاته للدفع بتطبيق ممارسات وآليات المراجعة الداخلية في الشركات المساهمة، ثم إنجازاته التي كان (يقودها من قلبه) لتوطين المهنة.
توسيع حضور السعوديين في المهنة ظل هدفه السامي الأول، وجهوده لتحقيق هذا الهدف النبيل وحقه الأدبي والوطني علينا يتطلب أن تروى كقصة أو رواية وطنية. هي قصة لأن فيها الكثير من الأحداث والمواقف الإنسانية الدرامية، وفيها تجربة قياديه متميزة، بدأها مع الزكاة في وظائف المراجعين للمصلحة حينئذ، واستمرت جهوده لتنمية الموارد البشرية في (بنك البلاد) حين اختار أربعين شابًا سعوديًا وبعثهم دفعة واحدة إلى أمريكا للحصول على الشهادة المهنية.
كان هدفه بناء الصف الثاني للقيادات في البنك، وهذا التفكير (المؤسسي) هو الذي أعطى البنك الاستقرار والنجاح في منتجاته. وقناعته في البناء المؤسسي توصل إليه من تجربته الطويلة مع ممارسات الإدارة في المملكة. فبحكم عملة في المحاسبة والمراجعة والتحليل المالي ومراجعة الميزانيات كان يرى أن ضعف الإدارة والقيادة مشكلة ملازمة للشركات والبيوت التجارية الكبيرة، وهي مصدر بعض مشاكلها وإخفاقاتها المستمرة. لذا كانت أطروحاته وكتابته في الصحافة تتجه إلى التنبيه لأهمية العمل المؤسسي الذي يضمن استقرار القيادة والإدارة ويضمن توسيع (متطلبات الحوكمة) حتى تكون الأمور مستقرة وتؤسس للشفافية والنزاهة.
وهذه الأخيرة أي النزاهة، كانت محور اهتمامه منذ عرفته قبل عشرين عامًا. والأهم أنه أيضاً هو عُرف فيها. كان هو الذي يفزع إليه القيادات، في القطاعين العام والخاص، عندما يكونوا بحاجة إلى شخص محايد يعطيهم الرأي والمشورة في أمور مالية فنية دقيقة. كان أبو معتز صارمًا ومخلصًا في إعطاء المشورة المنقذة من كارثة قانونية أو مالية أو أخلاقية.
توطين مكاتب الاستشارات والدراسات وتوسيع دور الكفاءات السعودية فيها كانت أحد الأمور التي أصبحت تشغله في السنوات الماضية. قبل عام تقريبًا زرته في مكتبه، وكان منزعجًا للتوسع في الاعتماد على شركات الاستشارات الأجنبية. (وكان أغلب خوفه على النزاهة).
روى لي قصة مع أحد رجال الأعمال (منذ عرفته لم يذكر أمامي اسم شخص، وأنا لا أتجرأ للسؤال احترامًا لمبادئه وأخلاقياته)، طلب منه مراجعة دراسة لحل مشكلة استثمار كبير لديه مقدمة من أحد المكاتب الأجنبية. بعد الاطلاع عليها تذكر أنها عرضت عليه سابقًا. الذي أزعجه ووجده مؤلمًا أن عدة ملايين دفعت لهذه الدراسة المكررة!
بعد أن انتهى من رواية هذه القصة المؤلمة.. عاد ليسترخي ظهره، وأخذ بصره إلى الأعلى ثم عاد ليضع ذراعيه بشكل متقاطع على مكتبه، ثم قال بهدوء: مؤلم أن ترى ممارسات تتراجع فيها الأخلاقيات والنزاهة!
لقد رحل الدكتور عبدالرحمن الحميِّد وترك لنا، ولبلادنا، ولأبنائه وبناته، ولكل تلاميذه ومحبيه إرثًا علميًا ومهنيًا ثريًا ومشرفًا.. وبدون شك خسرت وفقدت النزاهة أحد فرسانها النبلاء. هؤلاء هم الذين يضيفون شيئاً جميلاً لحياتنا في كل حركاتهم وسكونهم.. هؤلاء فراقهم مؤلم، والعزاء لنا جميعًا.