د.سالم الكتبي
بعد تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن رسمياً رئيساً للولايات المتحدة، بدأ ملالي إيران يظهرون بعض ملامح استراتيجيتهم التفاوضية مع الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، حيث أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، أن القضايا الصاروخية والإقليمية لم تكن ولن تكون جزءاً من الاتفاق النووي، نافياً إجراء طهران أي مباحثات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وقال «لقد قبلنا في الاتفاق النووي استمرار حظر التسلح على إيران لمدة خمس سنوات وعلى الصواريخ لعشر سنوات». وأضاف»الآن ليس الوقت المناسب للمطالبة بالتفاوض على دور إيران الإقليمي، وأمريكا وفرنسا وبقية الدول الغربية هي من تشعل النيران في المنطقة وحولتها إلى مخزن للبارود».
الواضح من خلال تحليل مجمل تصريحات المسؤولين الإيرانيين في هذه الفترة أن هناك تركيزاً كبيراً على نقاط محددة أولها فكرة عدم استعجال عودة إدارة بايدن للاتفاق النووي، وقد تكررت هذه الفكرة كثيراً في تصريحات للمرشد الأعلى علي خامنئي قال فيها إن بلاده لا تصر على عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي المبرم عام 2015 ولا تستعجلها، هي عبارة تكررت في تصريحات وزير الخارجية جواد ظريف قال فيها إن إيران «ليست في عجلة لعودة واشنطن للاتفاق النووي»، وأن «الكرة في ملعب الولايات المتحدة وعلى الإدارة الأمريكية الجديدة تنفيذ التزاماتها»، وهذا يعني - على الأرجح - أن مرحلة «جس النبض» بين الملالي وإدارة الرئيس بايدن منذ ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة قد أكدت أن مسألة العودة للاتفاق النووي لن تكون في صدارة أولويات البيت الأبيض، وقد أشرت سالفاً في مقالات عدة إلى أن الرئيس بايدن سيحتاج إلى بعض الوقت لحسم صيغة العودة للاتفاق النووي، حيث تؤكد الشواهد أن بايدن لا يريد منح الملالي «صكاً على بياض» ولا يريد عودة متسرعة للاتفاق بما يؤثر سلباً في علاقات واشنطن مع حلفائها في الشرق الأوسط، لذا فالتصور الأقرب للتحقق هو تمديد فترة العقوبات ضد النظام الإيراني حتى يتم قطع شوط في التعامل مع الملفات الداخلية الأكثر تعقيداً وضغطاً على الإدارة الأمريكية الجديدة، وبموازاة ذلك يتم التشاور مع حلفاء واشنطن الشرق أوسطيين، وتحديداً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وإسرائيل (بحسب تصريحات وإشارات متفرقة للرئيس بايدن ومسؤولي إدارته) وكذلك امكانية التشاور سرياً مع الملالي للبحث عن مدخل مناسب لاستئناف التفاوض مع الاتفاق النووي. لذلك كله يتحدث الملالي عن مسألة عدم استعجال عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، وذلك لحفظ ماء الوجه داخلياً وخارجياً بعد أن ظن الكثيرون أن قرار العودة سيكون من أول القرارات التي سيوقعها الرئيس بايدن عقب دخوله البيت الأبيض بأيام أو أسابيع قلائل على الأكثر، فضلاً عن أنهم يريدون إظهار عدم المبالاة بأثر العقوبات التي فرضها ترامب، وهو تكتيك يظن الملالي أنه قد يلجم أي ميل لدى الإدارة الأمريكية الجديدة لمواصلة الضغوط على طهران، حيث تبعث اللا مبالاة برسالة قد تثني هؤلاء عن استحداث عراقيل جديدة تستهدف الضغط على الملالي لانتزاع مواقف مرنة بشأن العودة للاتفاق النووي.
نقطة التركيز الثانية في تصريحات القادة والمسؤولين الإيرانيين هي محاولة وضع سقف متشدد لأي جولة تفاوضية محتملة مع الولايات المتحدة، وخصوصاً فيما يتعلق بدور إيران الإقليمي، حيث يصر الملالي على إبعاد هذه الجزئية عن أي مفاوضات، وفي ذلك يقول ظريف «القضايا الصاروخية والإقليمية لم تكن ولن تكون جزءاً من الاتفاق النووي» وذلك بدعوى أن الوقت غير مناسب للتفاوض حول هذا الموضوع، ولا ندري ما هو الوقت المناسب لذلك بنظر ملالي إيران؟! ولكن يبدو أن هذه النقطة تمثل الجزء الحساس في أي حوار بين نظام الملالي والولايات المتحدة تحديداً خلال الفترة المقبلة، وهذا عائد بالأساس لأن إيران لم تحقق بعد أهداف تدخلها العسكري المباشر وغير المباشر في اليمن وسوريا والعراق، حيث يسعى الملالي إلى حصد ثمار تدخلهم في هذه الدول العربية بشكل كامل ومستدام، إذ لا يزال الاستقرار بعيد المنال في هذه الدول والمناطق ولم تستقر علاقات الملالي معها بشكل رسمي يضمن عدم مطالبة القوى الاقليمية والدولية بسحب الميلشيات الإيرانية من هذه الدول العربية ووقف مخطط التدخلات والهيمنة الإيرانية.
ثمة نقطة ثالثة تتعلق بإشارات الملالي المتوالية في الفترة الأخيرة بشأن إحباطهم من المواقف الأوروبية، حيث يرى النظام الإيراني أن ثلاثي الترويكا الأوروبي (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) لم يستطع إنقاذ الاتفاق النووي، وفي ذلك قال ظريف «إن الأوروبيين كانوا عاجزين عن فعل أبسط شيء للحفاظ على الاتفاق النووي، وإن آلية (اينستكس) المالية لم تنجح»، وهذا يعني أن الملالي سيركزون على الحوار مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وفي ذلك درس مهم للثلاثي الأوروبي الذي أخفق في بناء استراتيجية فاعلة للتعامل مع التهديد النووي الإيراني، وأراد إمساك العصا من المنتصف بدعوى الخوف من انهيار الاتفاق النووي مع إيران، وذلك رغم كل الشواهد التي تؤكد أن هذا الاتفاق مات إكلينيكياً منذ انسحاب الولايات المتحدة منه منتصف عام 2018.
خلاصة الموقف أن تصريحات قادة ملالي إيران تشير إلى نبرة تهدئة واضحة، وحرص كبير على عدم استعداء الإدارة الأمريكية الجديدة، والسعي بوضوح إلى طي صفحة التعامل مع ترامب وما تخللها من تهديد ووعيد وحرب كلامية، والتوجه نحو اعتماد خطاب سياسي عقلاني يركز على البحث عن مخارج وحلول، ولكن مع تمسك بالخطوط الإيرانية العريضة المعروفة ولا سيما ما يتعلق بمخطط الهيمنة الإقليمي، الذي يسعى الملالي إلى إبعاده تماماً عن أي مفاوضات محتملة، ولكن نجاحهم في ذلك يبقى رهن رؤية الرئيس بايدن ومدى حرصه على عدم تكرار إخطاء أوباما والتنسيق مع حلفاء واشنطن الخليجيين بشأن سبل تحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال توسيع أطر التفاوض مع نظام الملالي وتضمين دورهم الإقليمي في أي جولات تفاوضية تعقد لتحديد مصير الاتفاق النووي.