د. جمال الراوي
يقال بأنّ الحَيرة هي: (صراعٌ بن قلبٍ يريد، وعقلٍ يرفض)، والعقل ُهو قوّى إدراكية، لها خاصيّة التمييز والإدراك والمعرفة، وهو بمثابة الحَكم والموجّه للإنسان، وذلك للحفاظ على ذاته، وإرشاده للطرق السليمة؛ التي تضمن له السلامة في البدن والنفس والمال، بينما القلب هو محلُّ الهوى والغرام والعِشق، وله سلطانٌ كبير على النفس الإنسانيّة، ويحاول أنْ يأخذ السيطرة والتوجيه من العقل، ويحاول دائماً أنْ يزيّن للعقل الأمور، ويدفع إليه بالأماني والغرور، ويزخرف له خياراته التي يريدها، وحينها يبدأ الصراع المرير؛ الذي يأخذ صِفة الحَيرة!!
لديك ابنٌ أو ابنة؛ يرغب أحدهما أو كلاهما أمراً ما، فيمارسان عليك ضغوطاً هائلة، فتستعمل معهما العقل والحكمة والرشد، حتى يبتعدان عن هذا الخيار؛ فتصيبك الحيرة لما وصلت إليه حالهما، وقد سيطر الهوى والقلب على إراداتهما، ولم يعودا يستجيبان لكلّ نداءاتك ومحاولاتك؛ فتحاول استنهاض العقل عندهما حتى يستفيق من غفلته، فتفاجأ بأنّ دخاناً كثيفاً قد غطّى على عقليهما، ولم يعدْ يرى ولا يسمع، وإذا بكلّ مرتكزات الحِكمة ومبادئها قد مُسِحت، وحلّ مكانها ضبابٌ كثيفٌ من اضطرابٍ في الحجج والبراهين، وحينها لا يعود لديك من خيار أمام هذه الحيرة القاتلة سوى أنْ تُرخي أسلحتك، وتستسلم لهوى القلب والعاطفة الذي أخذ منهما كلّ مأخذ، ثم تترك لهما أنْ يفعلا ما يشاءان ويرغبان، وتترك لقلبيهما يقوداهما إلى مصيريهما المحتومين!!
لديك قريبٌ أو صديق أو زميل؛ يمارس عليك ضغوطاً هائلة حتى تستجيب لنصائحه وإرشاداته؛ ويبذل قصارى ما يستطيع من وسائل الإقناع والترغيب، فتردّ عليه بأنّك غير مقتنعٍ بما يورده إليك من حجج؛ لأنّها لا تتوافق مع عقلك، الذي لا يستطيع تقبّلها، ولا يرغب في حدوثها... وقد تكون زوجتك التي تُرهقك، وتضيّق عليك كلّ السبل للخلاص من إلحاحها وإصرارها؛ فتهرب منها ذات اليمين، فتأتيك من ذات الشمال، وتعاود وتكرّر ما يجول في قلبها من رغبة، بينما تحاول أنت أنْ تدفعها عنها، فتصرّ وتصرّ؛ فتستجيب لقلبها، وتلغي عقلك وتمضي معها وأنت مغمض العينين... والويل كلّ الويل إذا عاتبتها أو أنّبتها أو وبختها لأنّها أجبرتك على خيارٍ نهايته السيئة معروفة!!
وقد يكون الأمر فيك ومنك، ويكون الصراع بين قلبك أنت مع عقلك، فقلبك يهوى ويحبّ ويرغب في حاجةٍ ما؛ تجلب لك المتعة والشَهْوَة واللَذَّة، فيأبى عقلك تذوّقها لأنّها تحمل معها السمّ، ولأنّها آنيّة، ولا تجلب لك سوى سعادة وقتيّة؛ سرعان ما تزول لتترك آثارها المروّعة عليك، لتكتشف بأنّ قلبك لا يرى من الأمور إلّا ظواهرها، ولا يهمّه نتائجها ومآلاتها، بينما عقلك يرى من وراء الحجب، ويعرف ما يخفيه المستقبل، وما سيؤول إليه، وحينه ترجع إلى قلبك تعاتبه وتلومه، لتكتشف مرّة أخرى بأنّه لا يفقه اللوم، ولا يبالي بالتأنيب، ولا يهمّه التوبيخ، لأنّه مُركّبٌ على الشهوات وليس غيرها، وهو لا يحمل أيّة حصانة أو مناعة لك، وإنّما يهتمّ بلحظتك الآنيّة واللحظيّة؛ فترجع إلى عقلك لتلومه هو الآخر؛ لأنّه لم يمنعك ولم يصدّك، فيردّ عليك بأنّه لا حيلة له ولا مقدرة، لأنّ عينيه فيهما قذى، وأنّ الرؤية أمامه كانت ضبابيّة بسبب الدخان الكثيف الذي كان يرسله قلبك أمامه؛ فتقعد ملوماً محسوراً ومكسوراً؛ لأنّك ما وفقت بين عقلك وقلبك!!
ترتكب الإثم، وتقترف الذنب، وتُخطئ الخطيئة، وتجترح السيئة، لسببٍ واحدٍ هو أنّك كنت في حَيرة من أمرك، أو بالأحرى كنت في صراعٍ بين قلبك وعقلك، ولأنّك تحمل هوىً جامحاً، وشهوةً غالبة، يدفع بها القلب دفعاً، بينما لا تملك سوى عقلاً خانعاً وضعيفاً، لا يستطيع تقديم الحماية والوقاية الكافيتين لك، لتجنيبك نتائج السوء التي يرشدك إليها قلبك... وهكذا تمضي الحياة في هذه الحيرة القاتلة بين هذين الجزأين المرافقين لك!!... وهكذا هي أحوالك مع نفسك وفي أسرتك، وفي مجتمعك، وقد اشتعل الصراع بين القلب والعقل؛ إنْ السيطرة على قلبك، وأمنت الشذوذ من جانب ذاتك، فإنّك قد لا تستطيع الوقوف أمام نشوز وهيجان وتمرّد قلوبٍ ممن هم حولك، وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، وأنت إذا رأيت فساد قلوب هؤلاء؛ فاعلم بأنّ أجسادهم ونفوسهم وعقولهم قد فسدت أيضاً، ولم يعدْ من خيارٍ أمامك سوى تركهم لمآلاتهم ولمصيرهم!!