د. خالد عبدالله الخميس
هذا «سين» من الناس - وما أكثرهم - يداوم على مجالسة معارفه بحجة «الوصل»، لكن ما إن تنتهي جلسة «الوصل» إلا وقد تنجست مشاعره بما دار في الجلسة من أحاديث بذيئة، ومن رفع صوت، وإسكات صوت، وحديث جارح لأسوأ ما في الحاضر من أحداث، وأسوأ ما في الماضي من ذكريات.
والأعجب أنه مع تزايد حوارات النكد، وبلع مرارة الحنظل بشكل تراكمي، فإن «سينًا» من الناس مستمر على المداومة على حضور مجلس الحنظل بشكل متواصل، وكأنه يسعى لتكدير مزاجه بنفسه، وتنجيس مشاعره بإرادته. وأعجب من هذا كله أنه أمام البحث عن حلول لمعالجة التحنظل فإن حلوله تنبعث من داخل صندوق الحنظل ذاته، وليس من خارجه؛ فيفكر في إسكات هذا، وإخراس ذاك، وتأديب هذا، والتعدي على ذاك.. ويغفل عن حل هو أبسط من البسيط، وهو مغادرة كامل صندوق الحنظل بمُره وعلقمه.. فبدلاً من أن تدخل جُحر الثعابين، وتتقاتل معهم، يمكنك ببساطة «ترك الداب وشجرته».
حضرتُ مجالس في العمل، ومجالس خارج العمل، يغلب عليها نكهة الحنظل، ووجدت أن البعض لا يأتي ليضيف إلى الجلسة ما يفيد، وإنما يأتي ليوقف «فلانًا عند حده»، ويبقى نفسه خارج حدودها.
عجبي، لمن يزور أقاربه، ومحتوى تلك الزيارات حوارات تنمرية، ومبادلة للشتائم، وجدال عبر ألفاظ نابية..! عجبي، لمن يزور معارفه، ومحصلة تلك الزيارات رفع صوت، وارتفاع سكر، وتكدير بال..!
عجبًا لمن يحرص على الوصل بحجة «البر» وهو يمارس في مجلس «البر» أكثر التصرفات بذاءة لقصم «البر».
ببساطة، ليس هناك مجلس أنت ملزم به؛ فكلمة واحدة، اسمها «أعتذرُ عن عدم الحضور»، كافية لمغادرة مجلس الحنظل، وترك «الداب وشجرته». تمنحك تلك الكلمة السحرية «أعتذر» أمانًا سلميًّا لانسحاب تكتيكي (مؤقت)، أو انسحاب استراتيجي (دائم).
أنت حُرّ ومختار؛ فلا وجود لقوة تلزمك بأن تجلس مجالس الحنظل غير إرادتك.. فالقطيعة أولى من الوصل أحيانًا؛ إذ إن درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح.
ومع هذا كله، فإن مجالس الحنظل ومجالس الشهد هي مجالس نسبية؛ فما هو مجلس حنظل بالنسبة لك قد يكون مجلس شهد بالنسبة لغيرك، وما هو مجلس شهد بالنسبة لك هو حنظل بالنسبة لغيرك.. المهم هو تقييمك أنت، وراحة بالك أنت؛ فأنت وحدك مَن يصنف المجلس طبقًا لراحتك، واتزان مزاجك.
وما يقال عن مجالس الحنظل يقال عن قروبات الحنظل؛ إذ يمكنك بكل بساطة مغادرتها بمجرد ضغطة زر دون استخدام «أعتذر».
أختم بهذه القصة التي تدور بين حديث الأمهات: شكت أم كبيرة السن لصاحبتها عقوق أبنائها بناء على قلة زيارتهم لها، فردت عليها صاحبتها: إن القطيعة أفضل من الوصل أحيانًا. فردت عليها: أتمازحينني يا صاحبتي؟ قالت: بالعكس؛ فليت أبنائي مثل أبنائك، وليتهم يقللون زياراتهم لي؛ لأنهم ما إن يجتمعوا إلا وتبدأ مناوشاتهم مع بعضهم حول خلافات شخصية، أو خلافات لآراء سياسية أو فكرية أو رياضية.. ولا يُسكت تلك المناوشات إلا التهاؤهم في جوالاتهم، وقبل أن يتفرقوا عني يطبعون على رأسي قبلة خفيفة، يظنون أنهم بهذا يكفِّرون عما صدَّعوه بصراخهم؛ فجلوسهم معي تحوَّل لجلسة حنظل؛ فالعقوق يا صاحبتي ليس مجرد فقدان الصلة والوصل، وإنما هو فقدان الرضا والمحبة. ألم أقل لك يا صاحبتي: إن القطيعة أفضل من الوصل أحيانًا.
واختتمت حديثها بهذا الدعاء: اللهم حوِّل مجالس الحنظل إلى مجالس السعد، وحوِّل مجالس النكد إلى مجالس الشهد.. آمين.