إبراهيم بن جلال فضلون
«ليس وداعاً أخيراً، وسنلتقي قريباً»، مُتوعداً: «سأقاتل دائماً من أجلكم. سأراقب وسأسمع. سنعود بشكل ما». وقال أيضاً عشية مغادرته: «إن حركتنا لا تزال في بدايتها»، عازماً على البقاء في دائرة الضوء، وعينه على انتخابات الرئاسة 2024، مؤكداً الصور السوريالية المتلاحقة، وما تعيشه أمريكا من كابوس قادم، قد بدأ منذ تولي ترامب، وعنوانه الانقسام العميق الذي علته صدمة اقتحام رمز أمريكا «الكابيتال»، مما يُعجل بتفكك شُرطي العالم وانقسامها، وقد بدا ذلك واضحًا بالانقسام في الكونغرس الأمريكي الذي لم يشهد مثل ذلك منذ مئة عام.
وأحداث تكرّت، كخرز السبحة وأحدثت صدمة في الداخل الأمريكي وذهولاً خارجه، ليتنمر بها القائلون بنظرية تفكك الولايات المتحدة كإمبراطورية لها نفوذ عالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، (وليس سقوطها)، كما جاءت نبوءات «سيمبسون ونوسترداموس»، عندما قُمت بتحليل ما تنبأت به في كتابي «تنبؤات نوستراداموس»، وكُتب أخرى كثيرة منها: كتاب «ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي»، لإيمانول تود. وكتاب عالم الاجتماع النرويجي جالتونج Johan Gultung بعنوان: «سقوط الإمبراطورية الأمريكية: ماذا بعد؟»، وكتاب «تاريخ انتهاء صلاحية أمريكا» لكال توماس، وكتاب «أمريكا في مرحلة الوداع» لكريس هيدجز، بل وأثارت تنبؤات جالتونج، جدلاً واسعًا وأضواءً إعلامية كبيرة؛ لتوقعه سقوط مُدوي لأمريكا في 2025، ثم عدل التاريخ إلى 2020.. مُستنداً على تحليلات أهمها: (ارتفاع حدة الاستقطاب السياسي والفكري وارتفاع صوت الفاشية في الخطاب السياسي، وارتفاع الأصوات بترحيل المهاجرين غير الشرعيين، والتغير في اتجاه الولايات المتحدة نحو حلف الناتو، وانغماسها في حروب كثيرة، نتيجة العنصرية المتأصلة والمُتأججة منذ حادثة قتل جورج فلويد، ثم حادثة دفع المسن من قبل قوات الطوارئ، وثقافة العنف المغروسة في النفوس وحُب السيطرة، على الرغم من تشبيه المُجتمع الأمريكي بالإناء الذي تنصهر فيه العرقيات والأديان Melting Pot، ثُم ارتفاع البطالة خاصة بعد كورونا، والتحول من الإنتاج إلى الاستهلاك بداية من الربع الأخير من القرن الميلادي المُنصرم).. أضف إلى ذلك علاقات أمريكا مع بقية دول العالم، وسياساتها الدولية المُتهورة، وكثرة الأخطاء من ابتزاز لدول الخليج والتحيز لإسرائيل، وتصعيد المواجهة مع الصين، وإلغاء معاهدة الأسلحة النووية، والذي سيضر بالاقتصاد الأمريكي بسبب السباق على التسلح.. وكلها دلائل على أفول نجم تلك الإمبراطورية.
ووفق ما يملكونه بعض المفكرين الأمريكان المُختصين في «المستقبليات» من معطيات وقواعد تقنية وعلمية، ليس ذلك درب خيال أو توقعات مُنجمين، بل حقائق مدروسة لاندثار أمريكي وشيك، يرى فيه الخبراء، ووضعوا لذلك احتمالات لسيناريوهات عديدة، ذكرنا أغلبها سلفاً، يتبعها الركود الاقتصادي بسبب الوباء، ورغبة ولاية كاليفورنيا كأغنى ولاية في الانفصال عن الأم، كون العديد من سكان كاليفورنيا يعتقدون أن الحكومة الفيدرالية لم تعد تمثل مصالحهم الاقتصادية، وقد تكون هي نقطة انطلاق حرب أهلية، كما حصل بداية الحرب الأهلية الأمريكية، مما سيكون كارثة على الخزينة الأمريكية، وإعدام مشروع العولمة الأمريكي، فحسب الإحصائيات فإن الكارثة وقعت يوم 12 مارس 2020 بسوق الأسهم الأوروبي في أسوأ سقوط للمؤشرات الأوروبية منذ 30 عاماً، حيث طبع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ما يعادل 1.5 تريليون دولار وهو ما يعادل ضعفي حجم الدولارات المتداولة في الاقتصاد العالمي، لكن الأسوأ حدوث تضخم غير عادي لطباعة الدولار دون زيادة مقابلة في حجم السلع، وذلك مُنذ أن تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن اتفاقية «برايتون وودز»، وهي (اتفاقية تم بموجبها تثبيت العُملات الأجنبية مقابل الدولار بسعر 35 دولارا لآونس من الذهب)، مما أدي إلى انحصار النفوذ الأمريكي وانقسامات وتغيير جيوسياسي في العالم.
ولعل عالمنا الجليل ابن خلدون أبرزهم، لربطه أطوار الدولة الخمس بثلاثة أجيال لا غير، الجيل الأول يبنى ويأسس ويتعب، والثاني يتبع ما بدأه الجيل الأول ويقلده ولا يحيد، أما الجيل الثالث فهو الجيل الهدام - فالدولة لها أعمار طبيعية كما الأشخاص-، بل أشار العالم في النهاية: «وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن تعرض عليها عوارض الهرم بالترف والدعة»، وقد ذُكر ذلك خلال خطاب للرئيس الأمريكي ريغان عام 1981، عن كتاب المقدمة والامبراطوريات وسقوطها فقال: «من المعروف أنه في بداية الامبراطوريات، تدر الضرائب عوائد كبيرة من معدلات ضريبية صغيرة، وفي نهاية الامبراطوريات تدر الضرائب عائدات صغيرة من معدلات كبيرة».
هناك من يعارض هذه التوقعات استناداً إلى ما لدى الولايات المتحدة من مصادر متعددة للقوة، ومنها القوة الناعمة، إضافة إلى لغتها العالمية (الإنجليزية)، ورُغم ذلك تواجه الولايات المتحدة تحديات مُتعاظمة في الوقت الحاضر، فماذا سيفعل بايدن؟!.. فسلطة الرجل الواحد الممسك بزمام بلده بقوته وطغيانه وجبروته «ترامب وأمثاله»، يجعل الوضع مُستحيلاً في إحداث تغيير في النظام، فمجرد أن يهب إعصار قوي تجد أن النظام قد اقتلعه ونظامه من جذوره، لكن ليس ثمة خلود لأي دولة في الدنيا، فخطر الحرب الأهلية قد صار مُحدقاً بأميركا مُنذ أن بدأت، وحين أعلن ترامب رفضه تسليم السلطة لمن وصفه بأنه فاز بالتزوير، وأعلنت الشعبوية الترامبية عن وجودها بل وتُفكر في تكوين حزب قوامهُ أكثر من 70 مليون ناخب، وفي أروقتهم اليمين المُتطرف، مما قد يكون أحد أكبر التهديدات لأمريكا، وزاد كل ما سبق حينما قرر أن يكون أول رئيس منذ نحو 150 عاماً يغيب عن مراسم التسليم والتسلم وتنصيب خلفه، وسط صورة أمريكية بدت فيها مدينة أشباح بلا مواكب شعبية، يجوبها 25 ألفاً من الجنود، عند تنصيب بايدن.
وفي الختام: إن أي حضارة تزول وتنتهي حين يُدمرها أصحابها، ورغم أن أمريكا أكثر الدول المُروجة للديمقراطية والقيم الإنسانية والحرية والرحمة، لكنها أكثر اعتداءً على حقوق الإنسان.. لذا فقد هز العربي ابن خلدون الفكر العالمي، عندما وضع قوانين يُمكن تطبيقها على كُل المُجتمعات البشرية انطلاقًا من أن الإنسان لا بد أن يعيش في مجتمع وشعب، ولا بد له من أرض للعيش فيها، ومن ثم لا بد لهذا الشعب من دولة وحاكم.