يعد التحيز المعرفي والنقدي إحدى الرؤى الأحادية لدى الثقافة الغربية ضد بقية أمم العالم وحضاراتها، ولأنه ينطلق من رؤية التفوق على الآخرين، فإنه بالضرورة يستعلي عليهم انطلاقاً من هذه الرؤية، بل يتعامل معهم وفقاً لهذه الفكرة العنصرية، وأظهر هذه الإشكالات التي تسفر عن نفسها واضحة؛ بروز التحيز الفكري في القراءة الأدبية للنصوص والأشكال الأدبية العربية، فهي ليست قراءة حيادية لتلاقح الأفكار، واستنباط المعارف وكشف اتجاه الذائقة الأدبية، بل هي منهج فلسفي متكامل له تصوراته الخاصة وأنساقه المضمرة التي تتوارى خلف الكتابات والنتائج والاستخلاصات، مما يتوجب معرفة أبعادها وتجلياتها في سبيل المحافظة على الهوية والتثاقف الإيجابي.
أولى الناقد عبدالفتاح كيليطو معظم مؤلفاته السردية العربية الكلاسيكية، هدفاً من خلال ذلك مواجهة التحيز الأدبي والنقدي الغربي الذي هيمن على الأدب العالمي وهمّش خصوصيات الشعوب وأذواقهم الأدبية وأساليبهم النقدية، ليعيد الاعتبار الأدبي إلى الأدب العربي القديم، ويحث الباحثين على تمثلها ودراستها من جديد. فالتراث العربي يمثل له التاريخ بعقيدته، وحضارته، وفكره، وعلومه وفنونه، فيلتقط منه ما حدث في ذاكرته وينقله إلى الأجيال المعاصرة، ومن هذا المنطلق تعد الكتابة في التراث العربي واستلهام شخصياته الأدبية، مثل كتابات الجاحظ، مقامات الحريري، مقامات الهمداني، جزءاً حيوياً يشغل فكر كيليطو، وهو بهذا الاستدعاء التاريخي يمهد لوضع هذه الكتابات نموذجاً لما يجب أن يكون عليه الأدب في العصر الحديث، لأن خصائص الثقافة الحديثة التي تمثلها أوروبا اليوم تتصف بالعلمانية والمساواة، وهذا يعني ضرورة التخلي عن الأفكار القديمة والتخلص من رواسب التفكير في حال الرغبة في الدخول إلى بوابة الثقافة العالمية.
تمحورت القضايا النقدية التي اشتمل عليها كتاب (لن تتكلم لغتي) حول ثلاث مسائل، المسألة الأولى: وهي التحيز الغربي ضد المنجز الأدبي العربي القديم والتي لا تحتكم إلى معيار محدد أو ما يقوله النص الأدبي، والمسألة الثانية: إعادة الاعتبار للأشكال الأدبية القديمة لا سيما المقامات التي تمثل حقيقة السرد العربي، ونفض الغبار عنها وتقديمها بصورة تحليلية معبّرة عن النسق الاجتماعي والثقافي إيماناً بقيمة لغته وليس فخراً مجرداً، المسألة الثالثة: كشف النسق المضمر للتحيز الأدبي الغربي الذي يصوغ أفكار الأديب العربي من أجل (المطابقة) مع الآخر، وهذا يظهر في المزامنة التاريخية في تدوين الأحداث، كما تظهر في العلائق المعرفية في ربط الإبداع الأدبي العربي بأسباب التميز الغربي.
لم يكتف كيليطو برفض التحيز المعرفي عند الغرب، بل حتى كشف أشكاله في الدراسات التي قاموا بها على الأدب العربي وظهرت فيها تحيزاتهم ضد المنجز الأدبي، فهو يراها أحكاماً غريبة وتخلو من الإنصاف في الحكم على النص الأدبي، واستعرض تجربة المستشرق الغربي: أرنست رينان في دراسة المقامات العربية، التي صُبغت بنوع من التناقض وعدم اليقين، وغياب الشروط العلمية والجمالية لقراءة نص المقامات، فهو لم يقدم آراء وأحكاماً تتسم بالموضوعية «يحاول رينان قبل كل شيء أن يرسم خطاً فاصلاً بين فضاءين متناقضين أوروبا والشرق، القطيعة تامة من فضاء لآخر، والانفصال حاسم.
كان كيليطو يجتهد في أن يعيد السيرة الأولى للأدب العربي، حينما كانت شمس العرب تسطع على الغرب وعلى غيرهم من الأمم، لذلك فإن محاولاته لم تقتصر على كتاب (لن تتكلم لغتي) بل إن دراساته النقدية والأدبية مسكونة بهذا الهاجس الفكري، لذلك حينما اهتم بدراسة المقامات؛ هذا النص السردي التراثي، قال مبرراً ذلك: ونعتقد أنه آن الأوان للانكباب على المقامة التي ظلت أمداً طويلاً معروضة في متحف يعلوها الغبار شيئاً فشيئاً ومن حين لآخر، كان يذهب سائحون أو مواطنون لتأملها نافضين برؤوسهم باستياء أو نافخين صدورهم بكبرياء، ماذا نصنع بالهمذاني والحريري.
يحاول كيليطو في كتاب (لن تتكلم لغتي) بيان النسق المضمر للتحيز للأدب الغربي الذي يصوغ أفكار الأديب العربي ويعيد نظمها من جديد دون أن يشعر صاحبها، فتتشكل نسخة أدبية غربية في قالب عربي ويضرب لذلك مثالاً بالمنفلوطي الذي تحول إلى ناقل أمين للأدب الفرنسي، فيما يبدو للناس أنه أحد المناهضين لهذه الثقافة المريبة، كما يتطرق إلى صعوبة المثاقفة، في ظل تعذر وجود الخطوط المعرفية المشتركة، من العقائد، والتاريخ، والأدب، والجغرافيا مع الآخر، فلا سبيل إليها إلا بالمزامنة التاريخية والعلائق المعرفية، فالمزامنة تكون بتحوير التاريخ العربي إلى التاريخ الغربي، والعلائق المعرفية تحدث بربط أدب المشرق وشخصياته بأدباء الغرب في ذلك العصر، وهي أشبه بحركة ترجمة ثقافية، أما الاعتراف بالريادة الأدبية والفرادة الأسلوبية، فلا بد دونها من اعتساف حقائق التاريخ من أجل البحث عن (الأثر الأوروبي) على حركة الأدب العربية بأي مشيئة كانت، فكتاب الساق على الساق للشدياق نقد لمجتمع الشرق الأدنى، متأثرٌ برايلي، كما لا بد من البحث عن أوجه (المطابقة) لا الاختلاف من أجل الاعتراف بالأدب العربي، فالجاحظ تكمن براعته في وجود الشبه بمونتيني، ورسالة الغفران للمعري قريبة الفكرة من الكوميديا الإلهية، وهي آراء مبنية على اختزال عجيب واحتقار دفين كما يرى كيليطو، وهذا ما انعكس على الأدباء العرب وألقى بظلاله على تراثهم النقدي والأدبي، فتجد المتلقي أديباً كان أم ناقداً أم قارئاً أثناء قراءته لأي أديب عربي، يستحضر في ذهنه بوعي أو غير وعي ما يماثله من أدباء الغرب، فحينما يقرأ حي بن يقظان يشرد ذهنه إلى روبنسون كروزو، وفي أثناء قراءة اللزوميات يتجلى له شوبنهاور، ولا يقرأ للجرجاني حتى يطل عليه فجأة دي سوسير وهكذا في سائر فنون الأدب ورجاله.
والنتيجة الوحيدة لسبل المثاقفة بين الشرق والغرب عند كيليطو تظهر واضحة في نهاية الكتاب تبدو مهمة شبه مستحيلة، فمن أراد أن يتحدث إلى العرب عليه إجادة لغتهم العربية أولاً، ويكنّي أكثر جرأة على لسان إحدى شخصيات مقامات الحريري: إما أن تبينا، وإلا فبينا، وحين ينطق بالعربية ويجيدها فعليه أن يعتنق معتقدها الخاص والخالص: دين الإسلام، وإلا فقد حانت القطيعة واستحال التواصل المعرفي.
شعر عبدالفتاح كيليطو بعمق التحيز الأدبي والفكري عند الغرب، فأصدر كتابه على شكل احتجاج أدبي، واعتزاز لغوي ( لن تتكلم لغتي) وكأنه يحتج على هذا التحيز في كل مجالات الحياة التي هيمن عليها الغرب وصبغها بأسلوبه الحضاري، فقد هيمنت فكرة التحيز الأدبي على الذاكرة الثقافية وتجذرت فيها، وكأنها أصبحت سيمة الأدب أو ثيمة المجتمع المعاصر، حتى في كتابه الأخير (في جو من الندم الفكري) وفي معرض ثنائه على الجاحظ الرمز الأدبي العربي، تذكر هذه السطوة الثقافية الغربية على الوعي الجمعي وضرورة المقارنة بين ثقافتين قائلاً «وإذا كان من اللازم تشبيهه بكاتب أوروبي، فلا أرى أفضل من الفرنسي مونتيني، الذي كان يكتب، على حد قوله، (بالقفز والوثب). (ولا أشك أنه كان يقرأ أيضاً بهذه الطريقة) وليس ذلك تسويقاً لأدب فرنسي أو أديب غربي بقدر ما هي وفاء للأدب العربي متمثلاً في صورة الجاحظ في سياق الأدب المقارن، وقد أشار إلى ذلك حين قال: أعرف أنني لن أضيف شيئاً يذكر إلى ما يكتبه الفرنسيون. وفضلاً عن ذلك، فإنهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون مني أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني.
** **
- د.حامد بن أحمد الإقبالي